مؤشرات الارتباط بين الماسونية وعلم الاجتماع
صفحة 1 من اصل 1
مؤشرات الارتباط بين الماسونية وعلم الاجتماع
مؤشرات الارتباط بين الماسونية وعلم الاجتماع
د. أحمد إبراهيم خضر
المصدر: حلقات من كتاب (اعترافات علماء الاجتماع، عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع)
اعترافات علماء الاجتماع
الحلقة الرابعة
مؤشرات الارتباط بين الماسونية وعلم الاجتماع
أخيرًا، سلَّم أحدُ رجال الاجتماع في بلادنا واعتَرَف بأنَّ الشُّكوك تحيطُ بنشأة علم الاجتماع؛ شكوكٌ تتعلَّق باختِيار اسمه ومَجالاته، ومَناهِجه وإجْراءاته، ولماذا تفجَّرَ التبشيرُ بهذا العِلم الجديد في الرُّبع الأوَّل من القَرن الماضي بالذات؟ هل لإقناع الناس بضَرُورة وُجودِه ومشروعيَّته، أم لأنَّ هُناك أهدافًا حقيقيَّة كانت تعمَل من وَراء سِتار؟ يَكفِينا هذا الاعتراف كنُقطةِ بِدايةٍ، وإن توَقف صاحبه عند هذا الحدِّ في كتابه الذي كرَّسَه لخِدمة توجُّهاته الماركسيَّة[1].
واقع الأمر أنَّ تأسيس عِلم الاجتماع - ذلك الذي يُدرَّس في كلِّ جامعاتنا، بما فيها الجامعات الإسلاميَّة - يرتَبِط ارتِباطًا وثيقًا باسم الفيلسوف الفرنسي (أوجست كونت)، وقليلاً ما يُشار إلى هذا الدور المهمِّ الذي لَعِبَه أستاذُه (سان سيمون) في تأسيس هذا العلم، إنَّ (سان سيمون) هذا هو مِفتاحُنا في بَيان مُؤشِّرات العلاقة بين الماسونيَّة وتأسيس علم الاجتماع.
الماسونيَّة في حقيقتها حركةٌ تنظيميَّة ذات طابع عالمي، ولكنَّها ذات هدفٍ يهودي على وجه التحديد تكرِّس كلَّ صور العصر وأدواته للحِفاظ على الإنسان اليهودي، وتُمكِّنه من السَّيْطرة على مَسار المجتمعات الإنسانيَّة، وتوجيه خُطاها بالتحرُّر من كلِّ ضَوابط الإيمان بالله، وهي أيضًا حركةٌ سياسيَّة تعمَل على تَقوِيض أركان كُلِّ سُلطة، دينيَّةً كانت أم مدنيَّةً، وهي في أصلها مؤسَّسة يهوديَّة في تاريخها ودَرجاتها وتعاليمها وكلمات السر فيها؛ أي: إنها يهوديَّة من الألف إلى الياء، وكل ماسوني ما هو إلا تجسيدٌ للعامل اليهودي، وهي في مُعتَقداتها ومُثُلِها ولُغتها وتنظيمها تُعبِّر عن الرُّوح اليهوديَّة، وتَتطلَّع إلى الآمال التي تَتطلَّع إليها إسرائيل وتدعَمُها، وخاصَّة ما يتعلَّق منها بالقدس[2].
أمَّا (سان سيمون)، فهو مفكِّر فرنسيٌّ، وُلِدَ في باريس في 17 أكتوبر 1760 م، كان منذ طُفولته ميَّالاً إلى التحرُّر من الدين ومن سُلطة الأسرة، ألحَقَه والدُه بدير (سان لازار) فترةً من الوقت، لكنَّه كان يُفضِّل السجن عن الالتزام بتعاليم الدِّين، عاش (سان سيمون) في الحي المعروف (رويال بالاس بباريس)، وهو الحي الذي كان يجمع في ذلك الوقت وزارةَ المالية والبورصةَ وبيوتَ اللعب والدعارة، كلاًّ في آنٍ واحد، عاشَر (سان سيمون) امرأةً اسمها (جولي جوليان) عشر سنوات، ثم بعَث بها إلى أحد أصدقائه بعد أنْ وجَدَها عِبئًا عليه، حاوَل الانتِحار فأطلق الرصاص على نفسه، ولم يمتْ؛ لكنَّه فقَد عينَه اليمنى، كانت تصرُّفاته مثيرةً للشك، وباعثةً على الريبة، كان لا يتَّخذ مذهبًا واحدًا في تفكيره، بل يعلن للناس مذهبًا، ويبطن آخَر يسرُّه إلى أصدقائه وخاصَّته، صادر البوليس كتاباته ومخطوطاته، واتَّهمه بالتضليل وهدم المبادئ الدينيَّة[3]، وهو عين ما تسعى إليه الماسونيَّة.
تعرَّف (أوجست كونت) على (سان سيمون) في عام 1817م بعد أنْ بلغ الأخير الستين من عمره، أعجب سان بكونت وجعَلَه سكرتيرًا له مدَّة ست سنوات، وكان من أقرب المقرَّبين إليه، تأثَّر كونت بسان سيمون تأثُّرًا كبيرًا، واستَقَى منه العديدَ من الأفكار المدمِّرة للدِّين؛ كفكرة الإنسانيَّة العالميَّة، وقانون المراحل الثلاث، والفلسفة الوضعيَّة، كان كونت يقول عن أستاذه سان سيمون: إنَّه "إنسان أصيل وطريف، وإنَّه يحمل له صداقة أبديَّة، ويُكنُّ له الحبَّ كوالده"، وما أنْ توتَّرت العلاقة بينهما لم يعدْ كونت يتحدَّث إلا عن "التأثير المشؤوم لصداقته المنحوسة مع أحد المشعوذين المختلِّين الذين التَقَى بهم في المرحلة الأولى من شبابه!"[4] ويقصد به سان سيمون.
وفي حين يرى البعض أنْ سان سيمون وأوجست كونت هما المؤسِّسان الرسميَّان لعلم الاجتماع الغربي، فإنَّ البعض الآخَر ينسب لـ(سان سيمون) وحدَه فضْل إقامة دَعائِم علم الاجتماع الحديث، وعلى رأس هذا البعضِ الفيلسوفُ الفرنسي الماسوني الشهير (برودون)، وهو أحدُ تلامذة سان سيمون، وأحدُ أبرز دُعاة الاشتراكيَّة، لم يكنْ برودون يُخفِي احتِقاره لكونت، وكان يرى أنَّ نظريَّات كونت ليست إلاَّ تكرارًا لنظريَّات سان سيمون[5].
ويرى رجال الاجتماع العرب أنَّ سان سيمون هو مؤسِّس علم الاجتماع الحديث في أوروبا، وأنَّ أهميَّته تَكمُن في أنَّه هو المفكِّر الوحيد الذي استَطاع أنْ يُؤثِّر على كلِّ اتِّجاهات علم الاجتماع المحافظة منها والراديكالية[6]، وهنا تُوضَع علامة استفهام كبرى!
حقيقة الأمر أنَّ الماركسيَّة (سلاح الجناح الراديكالي في علم الاجتماع)، وعلم الاجتماع المحافظ (ممثَّلاً في أوجست كونت) - نبعَا من مصدرٍ واحد، هو علم الاجتماع الغربي، وقد حدَّد (جولدنر) العلاقةَ بين علم الاجتماع والماركسيَّة من ناحية، وسان سيمون من ناحية أخرى، بقوله: إنَّ التصوُّرات السوسيولوجية التي قدَّمها كلٌّ من ماركس وكونت تجدُ جذورها العميقة في فِكر سان سيمون، وقد تحرَّك نصفُ علم الاجتماع المتمثِّل في الماركسية نحو الشرق بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، حتى أصبَحَ العلم الاجتماعي الرسمي في الاتِّحاد السوفياتي، أمَّا النصف الثاني من علم الاجتماع المتمثِّل في علم الاجتماع الأكاديمي، فقد تحرَّك نحو الغرب وشكَّل جُزءًا مهمًّا من الثقافة الأمريكيَّة[7] والماركسيَّة، كما جاء في بَيان المشرق الفرنسي الماسوني الأعظم لعام 1904 بـ(وليدة الماسونيَّة)، وكان مُؤسِّساها (كارل ماركس وفريدريك إنجلز) من ماسونيي الدرجة الحادية والثلاثين، ومن مُؤسِّسي المحفل الإنجليزي، وكانا من الذين أداروا الماسونيَّة السريَّة، وصدَر بفضلهما البَيان الشيوعي المشهور.
وكان النورانيون الماسون قد دعوا في مؤتمرهم في عام 1829م بنيويورك إلى ضمِّ الحركات الفوضويَّة في روسيا وأوربا الوسطى والمجتمعات الإلحاديَّة في أوربا إلى بعضها البعض، وجعلها في منظمة عالمية يُطلَق عليها الشيوعيَّة، وكلف ماركس وإنجلز بِمُقتَضى ذلك بوضْع المبادئ والنظريَّات التي من شأنها تنفيذ المشروع، وتَمَّ إمدادهما بالمال، فكتَبَا في حيِّ سوهو بلندن كتابهما: "رأس المال والبيان الشيوعي".
هذا، وتدلُّ كافَّة الأبحاث السياسيَّة ودراسة التاريخ التحليلي للظواهر الاجتماعيَّة والسياسيَّة على أنَّ الشيوعيَّة ما هي إلا شكلٌ من أشكال العمل الماسوني اليهودي السري الموجَّه[8].
لم يكن كارل ماركس يُكِنُّ أيَّ احترامٍ لأوجست كونت، وكان يعتَبِره مُهرِّجًا سياسيًّا، وعالمًا ضعيفًا[9].
تصدَّى ماركس للدِّفاع عن سان سيمون، وخاصَّة في كتابه "الاقتصاد السياسي والفلسفة"، وهناك عبارات بأكملها استمدَّها ماركس من سان سيمون، وعلى الأخص المتعلقة منها بفكرة علوم الإنسان، والأهم من كلِّ هذا وذاك هو أنَّ كثيرًا من الفقرات التي تضمَّنها المنشور أو البيان الشيوعي الذي أصدره ماركس وإنجلز وردت بصياغات مختلفة في أوَّل استعراض شامل قدَّمه (بازار) أحد تلامذة سان سيمون لمذهبه، وكان (بازار) هو أوَّل مَن استخدم عبارة (استغلال الإنسان لأخيه الإنسان)، وهو التعبير الذي استخدمه من بعده ماركس وأتباعه من الشيوعيين[10].
أمَّا دور كايم عالم الاجتماع الفرنسي اليهودي المعروف، الذي كان يُهدِي روَّاد علم الاجتماع في بلادنا كتبهم إلى روحه، وتعدَّدت الرسائل العلميَّة لطلابنا إعجابًا به وهيامًا به، فقد أكَّد في كتابه عن (الاشتراكيَّة): أنَّه "يجب أنْ ننسب إلى سان سيمون وحدَه الشرف الذي يُنسَب إلى أوجست كونت بأنَّه أنشَأ علمًا جديدًا، هو علم الاجتماع".
ويُضِيف دور كايم أنَّ سان سيمون لم يرسم فقط خطَّة هذا العلم الجديد؛ بل إنَّه حاوَل أنْ ينفذها، ويقول أيضًا بأنَّ جميع الأفكار التي تسود عالمنا اليوم تجد جذورها عند سان سيمون، ويؤكِّد (ماكسيم لروا) أنَّ سان سيمون وليس أوجست كونت هو الذي أنشأ علم الاجتماع، ويعتبر (لروا) أنَّ سان سيمون هو الأستاذ المشترك لكلٍّ من ماركس وبرودون ودور كايم، وأنَّه هو الذي مهد الطريق إلى الاشتراكيَّة.
مهَّد سان سيمون لأفكار ماركس، وأكَّد عالِم الاجتماع (جورج جيرفيتش) في محاضراته بالسوربون عن كارل ماركس وسان سيمون أنَّ ماركس قد تأثَّر بآراء سان سيمون التي عرفها أتْباعه عام 1829 - 1830، كان ماركس صديقًا للشاعر الألماني (هن)، وكان (هن) يتردَّد على صديقه ماركس كثيرًا، وكان يرشده وصديقه الشخصي في العاصمة الفرنسيَّة التي قَدِمَ إليها قبل ماركس، وهو الذي عرَّفه بأتباع سان سيمون وجعَلَه على صلةٍ وثيقة بهم[11].
ويكفي القارئ أنْ يعلم أنَّ هؤلاء الأتْباع الذين كان ماركس على صلةٍ وثيقة بهم قد رحَلُوا إلى مصر خصيصى لضرب الإسلام بأفكار سان سيمون، تمكنوا من احتلال أعلى المناصب، التي كان منها قيادة حرس محمد علي، ونذكِّر القارئ هنا مرَّة أخرى بمقولة ماركس التي امتدح فيها محمد علي لضربه الإسلام قائلاً: "إنَّ محمد علي هو الشخص الوحيد القادر على إحلال رأس حقيقي محلَّ عمامة المراسم"[12].
كان سان سيمون قد التَقَى - كما يقول المؤرخ (ألبير ماتييه) - في عام 1791 بالزعيم الشيوعي (بابيف)، وأصبح سان سيمون بعد هذا اللقاء واحدًا من كِبار الأثرياء بعد أنْ تعدَّدت أسفاره.
هذا، ويمكن بوضوح شديد تلمُّس أفكار كارل ماركس عن الطبقات والصِّراع الطبقي، وتضامُن الطبقة العاملة (البروليتاريا) في فكْر سان سيمون، كان الأخير يرى أنَّ طبقة الصنَّاع يجب أنْ تشغل الصفَّ الأول؛ لأنها أكثر الطبقات أهميَّة؛ لأنَّ الغالبيَّة العُظمَى من المُواطِنين في أيِّ مجتمع ينضَوُون بالضرورة تحت طبقة الصنَّاع، ولكنَّ أفراد هذه الطبقة يفتَقِرون إلى الإحساس بروح التضامُن الطبقي الذي يجمع شملهم، وأنَّه لا بُدَّ من تضافُر الصنَّاع للقَضاء على الطبقة غير المنتجة[13].
هذه المبادئ الاشتراكيَّة - كما تكشف واحدةٌ من المجلات الألمانيَّة الماسونيَّة الصادرة في عام 1894 - كانت خيرَ عضدٍ للماسونيَّة، فناصرَتْها تمامًا، كما جاء في البروتوكول الثالث من بروتوكولات اليهود:
"إنَّنا نقصد أنْ نَظهَر كما لو كنَّا المحرِّرين للعمَّال، جِئنا لنُحرِّرهم من هذا الظُّلم، حينما ننصَحُهم بأنْ يلتَحِقوا بطبقات جيوشنا من الاشتراكيين والفوضويين والشيوعيين، ونحن على الدَّوام نتبنَّى الشيوعيَّة ونحتضنها، متظاهرين بأنَّنا نُساعِدُ العمال طوعًا لمبدأ الأخوَّة والمصلحة العامَّة للإنسانيَّة، وهذا ما تُبشِّر به الماسونيَّة الاجتماعيَّة"[14].
ومن أبرز المبادئ الاشتراكيَّة التي دعا إليها سان سيمون "إلغاء حقِّ الوراثة وإلغاء الملكيَّة الفرديَّة"، تصوَّر سان سيمون أنَّ فَساد المجتمعات ناتجٌ عن وجود الملكيَّة الفرديَّة، ورأى أيضًا أنَّ حقَّ الوراثة يُفسِد العلاقات الاجتماعيَّة[15].
وعن علاقة إلغاء حقِّ الملكيَّة والوراثة بالماسونيَّة هناك مشروع (آدم وايز هوايت) - أستاذ اللاهوت والقانون الديني بجامعة (أنغولد شتات) - الذي اعتَنَق اليهوديَّة، واستَأجَرَه اليهود في عام 1770 لإعادة تنظيم البروتوكولات اليهوديَّة القديمة في ثوبٍ جديدٍ، أنهى (هوايت) مشروعَه في عام 1776، وكان أهم ما تضمَّنته بنود المشروع: إلغاء الإرث، وإلغاء الملكيَّة الخاصَّة، إلى جانب إلغاء الأديان بالطبع[16].
وكما كانت الماسونيَّة وسان سيمون وَراء المبادئ الاشتراكيَّة والنظام الشيوعي، كانا أيضًا وَراء الرأسماليَّة ووَراء العُلوم الاجتماعيَّة، والفلسفة، والاقتصاد، والدِّين، والسياسة، والتاريخ، والتقنية، والصناعة، والحرب الأمريكيَّة، وإنشاء الممرَّات حول العالم، وصِياغة مواثيق عُصبة الأمم لخِدمة الأهداف الماسونيَّة.
يقول جي نورمانو - الأستاذ بجامعة هارفارد - في مقالةٍ يصفُ فيها عالميَّة وإسهامات سان سيمون: "كلُّ العلوم الاجتماعيَّة خصَّبَتْها كتابات سان سيمون، الاشتراكيَّة من صُنع سان سيمون، وهو في نفس الوقت بنى الرأسماليَّة التي تُعَدُّ إحدى الإنجازات التي كان يحلم بها والتي تُميِّز عالمنا اليوم، أثر سان سيمون في الفلسفة والاقتصاد، وفي التاريخ والدِّين والسياسة، هو المؤسِّس الأوَّل لعلم الاجتماع، وهو الذي صاغَ مسوَّدة عُصبة الأمم في عام 1814، وهو فوق كلِّ ذلك قائدٌ للنُّخبة الجديدة من السياسيين والصحفيين ورجال التقنية والصناعة، وهو المتحدِّث الرسمي باسم الجيل الذي يحمل روح التحديث الثائرة، شارَك في الحرب الأمريكيَّة في عام 1779، سافَر إلى المكسيك ليعرض على حاكِمها مَشرُوعًا لإنشاء ممرٍّ يُوصل المحيط بالبحر"[17].
من أين لرجلٍ بمفرده كلُّ هذه القدرات التي تحدَّث عنها نورمانو في مقالته التي كتَبَها دِفاعًا عن سان سيمون وأتباعه؟ سرعان ما تنكَشِف الحقيقة حينما يظهَر ارتباط سان سيمون برجال المال والبنوك اليهود في أوروبا وأمريكا، وعلى رأسهم (روتشيلد).
لَمَع اسم (روتشيلد الأول) - الذي عاش من عام 1743 إلى عام 1812م - في ميادين الصيرفة والمراباة وسائر المعاملات الماليَّة، فوجَّه الحاخامات اليهود أنظارهم لاستِخدامه واستخدام أسرته في تنفيذ مُخطَّطاتهم العالمية الكبرى، ونبَغ في هذا المجال أحدُ أبنائه (ناتان روتشيلد)، فحمل مع أبيه ومن بعده بالاشتراك مع جماعةٍ من رِجال المال اليهود من المُرابين العالميين تنفيذ مخطَّطات الحاخامات اليهود، وكان (روتشيلد الأول) قد دعا اثني عشر يهوديًّا من أرباب المال العالميين إلى (فرانكفورت)، وكان إذ ذاك في الثلاثين من عمره، وعقد المجتمِعون مؤتمرًا لتأسيس احتكارٍ عالمي يَسُوقون فيه أموال العالم إلى سُلطانهم؛ لتَسخِيرها في تحقيق الأهداف اليهوديَّة العالميَّة[18].
أُعجِب (روتشيلد) بأفكار (سان سيمون)، وتُشِير المذكِّرات المعاصرة إلى تَعاطُف (آل روتشيلد) اليهود مع أتْباع سيمون وأفكارهم، تلك التي حمَلُوها معهم إلى مصر وحاوَلُوا تطبيقها، هناك أيضًا علاقة سيمون مع رجل البنوك اليهودي (أوليند رودريج)، الذي أخَذ على عاتِقِه مهمَّة نشْر أفكاره وتحمل تكاليف ذلك.
يُضاف إلى ذلك أنَّ أخلص تلاميذ سان سيمون - وهو (إنفانتان)، قائد حملة الأتباع إلى مصر - كان ابنًا لأحد رجال البنوك، وكان (سان سيمون) على علاقةٍ وثيقة (بفرنسيسكو كابرس) مؤسس بنك (سانت تشارلز) بإسبانيا، الذي عرض بالاشتراك معه على الحكومة الإسبانية مشروع قناة (إنبار تيرو).
وكما كان الشيوعيُّون وراء سان سيمون وهو يتحدَّث عن تضامُن الطبقة العاملة والصِّراع الطبقي وإلغاء الملكيَّة الفرديَّة وحق الإرث - كان الرأسماليون وراءه أيضًا، كان رجال الأعمال من أكبَرِ المدافعين عنه وهو يتحدَّث عن ضرورة سَيْطرتهم على الثروات العامَّة، والانفِراد بحكم البلاد، وضرورة أنْ يعهد إليهم بإدارة الثروات العامَّة؛ لأنهم - في نظره - هم الذين يستطيعون تحقيق رغبات الرأي العام[19].
وبذلك تمكَّن اليهود من إحكام سَيْطرتهم المالية على العالم بمختلف نُظُمِه التي كانوا وراءها، سواء أكانت اشتراكيَّة أم رأسماليَّة.
إنَّ وقفةً دقيقة عند الكلمات التي أشرنا إليها لنورمانو عن سان سيمون، وارتباطات الأخير برجال البنوك والمال اليهود، وخاصَّة (آل روتشيلد)، وكذلك عند مقولة (دور كايم): "إنَّ جميع الأفكار التي تَسُودُ عالمنا اليوم تجدُ جذورها عند سان سيمون" - لَتَكشِفُ بوضوحٍ أنَّ عِلم الاجتماع لم يكنْ إلاَّ اختراعًا ماسونيًّا يهوديًّا، رُوعِي فيه أنْ يحتوي ويشتَمِل على مختلف التيَّارات الفكريَّة التي تُوجِّه حركة المجتمع، سواء أكانت محافظة أو ثوريَّة، بحيث لا تَخرُج عن الأُطُر التي حُدِّدتْ لها، لكن هذه التيَّارات مهما اختلفَتْ، فإنها تتَّفِق على شيءٍ واحد، وهو (ضرب الدِّين).
يضرب الاتِّجاه المحافظ الدِّين بدعوى الإيمان بالقيم الإيجابية للجوانب غير العقلانيَّة من السلوك؛ كالتقاليد والخيال والمشاعر والدِّين، مع القول باستحالة إقامة ما يُسمُّونه بالعقائد الدينيَّة التقليديَّة بشَكلِها القديم، ثم العمل على إيجاد مجموعةٍ من المعتقدات والقِيَم التي تَظهَر في دِيانةٍ وضعيَّة علميَّة يلتفُّ الناس حولها، لكنَّها ليس لها ارتباطٌ بإلهٍ أو جنَّة أو نار، ويضرب الاتجاه الثوري الدِّين ضربًا مباشرًا بنَقدِه العنيف للدِّين، ورفضه ما يسمِّيه بالعقليَّة اللاهوتيَّة الغيبيَّة.
وتُعتَبر الثورة الفرنسيَّة أحد أوجُهِ الارتِباط بين سان سيمون والماسونيَّة، مهَّدت الماسونيَّة للثورة الفرنسيَّة كما جاء في مجلَّتها آكاسيا الصادرة في عام 1903، ولعبت الماسونيَّة - كما جاء في محفل إنكرس الأكبر الماسوني عام 1923 - أهم الأدوار في إشْعال الثورة الفرنسيَّة، وقال الماسون فيها: "يجب أنْ نكون على أُهبَة الاستعداد للقِيام بأيِّ ثورةٍ منتظرة في المستقبل"[20].
عاصَر سان سيمون هذه الثورة وعايَش أحداثها، وتكشف سجلات الثورة المدوَّنة أنه أصبح في فترات لاحقةٍ أكثر ولاءً وحماسًا لها، وشارَك في بعض إجراءاتها، بل إنَّه مُنِحَ في عام 1793 شهادة المواطن الصالح مرَّتين، وشارَك أيضًا في خريف العام نفسه كعضوٍ فعَّال في الحلقات الثوريَّة المتطرِّفة في باريس[21].
أمَّا أبرز صُوَرِ العلاقة بين سان سيمون والماسونيَّة، فهي (فكرة الإنسانية) التي تُعتَبر المحور الأساس الذي تدورُ في فلكه نظريَّات علم الاجتماع[22].
يقول (هاوكنز) في "موسوعة الدِّين والأخلاق": "إنَّه يمكن أنْ ننظُر إلى الماسونيَّة على أنها دِين من صُنع الإنسان"[23].
أمَّا جيمس كارتر، فيقول: "إنَّ الماسونيَّة تُحاوِل أنْ تنمِّي دينًا جديدًا يتَّفق عليه كل الناس"[24].
وفكرة الإنسانيَّة العالميَّة هذه فكرةٌ ماسونيَّة تهدف إلى أنْ تحلَّ عبادة الإنسانيَّة محلَّ العبادة بدلاً من الله، وقد جاء في مضابط الشرق الأعظم الماسوني عام 1913 قولهم: "وسوف نتَّخذ الإنسانية غايةً من دون الله"[25]، وجاء أيضًا في كتاب "معنى الماسونيَّة" قول (ولمشهرست): "لا يَزال المعبد غير مكتمل الآن ولم ينتهِ بعد، إنَّه هذا الكيان الجمعي من الإنسانيَّة نفسها، ونحن نعرف كيف نُكمِله"[26].
والمذهب الإنساني أو النَّزعة الإنسانيَّة كما يَراه عالِمَا الاجتماع (ماكيفر وبيج) مذهب يَنزِع إلى التخلِّي عن أحكام ما فوق الطبيعة المتعلقة بالخلق والجنَّة والنار، وما تنطَوِي عليه النَّفس من خطيئة، وما أشبَهَ ذلك... ثم يعمل جاهدًا على أنْ يجمع الناس على أساسٍ من قواعد الأخلاق الاجتماعيَّة، لا على أساس المذهب الديني، أو الجماعات الدينيَّة، أو المعتقدات بوجهٍ عام[27].
والنَّزعة الإنسانيَّة طريقةٌ للتفكير تؤكِّد على أهميَّة الإنسان في طبيعته ومكانه في العالَم، وتجعَل من الإنسان وليس الله محورَ الكون؛ ولهذا فإنَّ الإنسانيَّة في جملتها وتفصيلها ثورة ضد الدِّين الذي لا تؤمن به ولا بالتدخُّل الإلهي، وترفض الله والغيبيَّات، وليس فيها مكانٌ لما هو مقدَّس أو مُوحًى به، وترى أنَّ مستقبل الحياة على الأرض يقَع على أكتاف الإنسان وحده؛ ولذا فهي تُركِّز على الحياة الدنيا دون الآخرة.
هذا، وقد أعادَ أصحاب النَّزعة الإنسانيَّة في العصر الحديث تعريف (الدين والله) بصورةٍ تؤدِّي إلى الاستِغناء عنهما بطريقةٍ مُستترةٍ غير مباشرة، لا بطريقةٍ صريحة مكشوفة.
(الله) عند البعض منهم: هو المُثُل الإنسانيَّة العليا والمبادئ الاجتماعية وحدَها، وعند البعض الثاني: هو الذات الشاملة في كلٍّ منَّا، وعند البعض الثالث: هو التفاعُل المتبادَل بين الأفراد، ومن ثَمَّ تبتَعِد هذه التعريفات عن المفهوم الحقيقي للألوهيَّة، وتقطع الصلة تمامًا بينها وبين مفهوم (الله) المألوف عند الناس.
أمَّا (الدِّين)، فهو عند أصحاب النَّزعة الإنسانية: اتِّجاه أو موقف وليس بمضمون، فالشيوعيَّة والإلحاد تدخُل بذلك ضمن الأديان، ويرى (لامونت) أنَّ أيَّ دعوة منظمة تنظيمًا اجتماعيًّا تنجَح في كسْب وَلاء الناس وعواطفهم هي دِين، وعلى هذا الأساس تكون: كرة القدم، ونقابات العمال، والإجراءات السياسيَّة، والجيوش، والجمعيات الأدبيَّة، من ضروب النشاط الدِّيني[28].
وتقول النشرة الماسونيَّة في 15 ديسمبر 1866: "علينا نحن الماسون أنْ نتحرَّر من كلِّ اعتقاد بوجود الله".
وجاء في نشرة 1922 القول: "ستقوم الماسونيَّة مقام الدِّين، والمحافل مقام المعابد".
وجاء في نشرة الشرق الأعظم في فرنسا في يوليو 1856: "نحن الماسون لا يُمكِننا أنْ نتوقَّف عن الحرب بيننا وبين الأديان؛ لأنَّه لا مَناصَ من ظفرها أو ظفرنا، ولا بُدَّ من موتها أو موتنا، ولن نَرتاح إلا بعد إقفال جميع المعابد"[29].
أمَّا (سان سيمون)، فقد أوضَحنا أنَّه كان منذ طُفولته ميَّالاً إلى التحرُّر من شؤون الدِّين، وكان يرى أنَّ الدِّين ما هو إلا اختراعٌ قامت به الإنسانيَّة، والعلم عنده هو الذي يجبُ أنْ يكون دِيانةَ المستقبل، يقول سان سيمون في أحد كتاباته: "بالنسبة لكم أيها السادة الذين تعلَمون جيدًا كم باتَت العقائد القديمة خاليةً من القوَّة والحياة، باتَ لا مفرَّ من أنْ تَشعُروا بقوَّة الحاجة إلى عقيدةٍ عامَّة جديدة تنتَمِي إلى الحالة الراهنة للحضارة والمعارف".
وقال أيضًا في موضعٍ آخَر: "إنَّ الدِّين يُصابُ بالشيخوخة مثْل المؤسسات الأخرى، وهو مثْل المؤسسات الأخرى بحاجةٍ إلى أنْ يتجدَّد بعد فترةٍ من الزمن"[30].
ويظهر اتِّجاه سان سيمون المادي الإلحادي على النحو التالي:
1- يرى سان سيمون أنَّ الإنسان هو الذي اختَرَع الله مَدفوعًا بدوافع ماديَّة، وبعد أنْ تَمَّ له ذلك الاختراع اعتَقَد في أهميَّة نفسه، ويذهَبُ سان سيمون إلى أبعد من ذلك فيقول: "إنَّ فكرة الله[31] في الحقيقة فكرةٌ ماديَّة، وهي نتيجةٌ لدورة السائل العصبي في المخ".
2- اقتَرَح سان سيمون تكوينَ جمعيَّة من واحدٍ وعشرين عُضوًا لتمثيل الإرادة الإلهيَّة في هذا الكون.
ويقول سان سيمون: إنَّ الله يُحدِّثه ويُوحِي إليه بفكرة الديانة الجديدة - ديانة نيوتن - ويقول له: "إنَّ مجلس نيوتن سوف يُمثِّلني على الأرض"، فيقسم الإنسانيَّة إلى أربعة أقسام: (الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية)، وسوف يكون لكلِّ قسمٍ من هذه الأقسام مجلس على غِرار المجلس الرئيس، وسوف يرتَبِط كلُّ فرعٍ في العالم - مهما كان مَوطِنه - بأحدِ هذه الأقسام (الأوربية الغربية بالطبع)، وبالمجلس الرئيس، ومجلس القسم الذي يتبعه، وينتخب النساء في هذه المجالس على قدَم المساواة مع الرجال[32].
ومن المُضحِكات المُبكِيات أنْ يَعرِض رجال الاجتماع في بلادنا على طلابهم آراء سان سيمون بإدارة شؤون الإنسانيَّة وفقًا للجنسيَّات السالفة الذكر، بطريقةٍ تعكس مدى ضَحالة ونضب العقيدة فيهم، بالإضافة إلى السطحيَّة الشديدة في الفَهم.
هذا محمد الغريب عبدالكريم - أستاذ ورئيس قسمي الاجتماع وعلم النفس بجامعة أسيوط بمصر - بدلاً من أنْ يشرَحَ لطلاَّبه ما وَراء أفكار سان سيمون، نجدُه يحتجُّ على سان سيمون؛ لأنَّه تجاهَل أقدم شعوب الأرض، مثل: الشعب المصري، والهندي، والصيني... التي كانت يجب أنْ تُمثَّل في مجلس نيوتن الذي يُمثِّل الإرادة الإلهيَّة لإدارة شؤون الإنسانيَّة[33].
3- كتَب سان سيمون مشروعَ تأسيس موسوعة يدخل تحتها كل ما هو ليس (بدِيني)، وقال في هذا المشروع: "إنَّني أعتقدُ في الله الذي خلَق العالم وأخضَعَه لقانون الجاذبيَّة"، هذا (الإله) الذي يعتَقِد فيه سان سيمون ليس سوى مصطلح جديد للطبيعة في صُورتها المثاليَّة، أو كما يُعبِّر عنه بأنَّه: "النظام العظيم للأشياء"، وقد حدَّد رجال الاجتماع العرب (الله) عند سان سيمون بأنَّه إلهٌ مجرَّد لا شخصي، خالدٌ في الطبيعي، ومذهبه النهائي شكلٌ من أشكال وحدة الوجود.
وعن اتِّساق مفهوم سان سيمون عن الله مع مفهوم الماسونيَّة، يقول تلميذه الفيلسوف الاشتراكي الماسوني (برودون): "ليست الماسونيَّة سوى نكران جوهر الدين، وإنْ قال الماسون بوجود الله أرادوا به الطبيعة وقواها الماديَّة، أو جعَلُوا الإنسان والله كشيءٍ واحد"أو أو جعلوا الإنسان والله ككشئ واحد، ونتيجةً لهذا الإلحاد البيِّن؛ فقد صُودِرت مخطوطات مشروع إنشاء الموسوعة الجديدة، واتُّهِم سان سيمون بالتضليل وهدْم المبادئ الدِّينيَّة.
4- ارتَبَط هدْم سان سيمون للدِّين بهدْم الأخلاق القائمة على الدِّين، ودعا إلى أخلاق دنيويَّة تقومُ على العمل والتعامُل بمنأى عن كلِّ نزعةٍ روحيَّة أو سماويَّة؛ بمعنى: إعادة بناء الأخلاق على أسسٍ جديدة، يتمُّ عبرها الانتقالُ من الأخلاق السماويَّة إلى الأخلاق الأرضيَّة التي تَتلاءَم في تصوُّره مع التطوُّر الفكري والعلمي المعاصر، ويقرُّ رجال الاجتماع العرب بأنَّ الأخلاق عند سان سيمون مسألة دنيويَّة علمانيَّة أساسًا لا غاية لها فيما وَراء القضايا الزمنيَّة، وهدفها تحقيقُ أقصى قدرٍ من السعادة في الحياة.
5- بعد أنْ قضى سان سيمون على الدِّين والأخلاق القائمة عليه، أبرَزَ دور (الفن)، هذا السلاح الماسوني المهم، وقال: إنَّ الفن سيُسهِم في صِياغة الأخلاق القائمة في المجتمع، وسيُشكِّل المعتقدات والآراء والمشاعر.
أمَّا الموسيقا، فهي عند سان سيمون وسيلةٌ من وسائل التثقيف الخلفي، وقد حدَّد (ولمشهرست) في كتابه "معنى الماسونيَّة" علاقتها بالموسيقا قائلاً: "إنَّ الموسيقا ليست هي هذا النوع الوسيلي أو الذي يُعبَّر عنه بالصوت، إنها التطبيق الحيُّ لفلسفتنا، إنها توافق الحياة الإنسانيَّة بانسجامٍ مع الله، حتى تُصبِح الروح الشخصيَّة متَّحدة مع الله"[34].
6- أسَّس سان سيمون مذهب (الوضعية)، هذا المذهب الذي انخدَع به عُلَماء الأزهر في بلادنا، وكان أحد المَعاوِل المهمَّة التي قَضَتْ على دولة الخلافة الإسلاميَّة، يُمثِّل هذا المذهب مدرسةً قائمة بذاتها في علم الاجتماع.
وقد كان مذهبًا معروفًا في القرن السابع عشر والثامن عشر، ولكنَّه لم يكن معروفًا بهذا الاسم، يعني المذهبُ الوضعي عند سان سيمون تطبيقَ المبادئ العلميَّة على جميع الظواهر الطبيعية والإنسانية، وفهمها في ضوء هذه المبادئ مجرَّدةً من (الدين) تمامًا.
كان سان سيمون مقتنعًا بأنَّ المعرفة الأساسيَّة قد تطوَّرت عبر ثلاث مراحل، هي: المرحلة (اللاهوتية أو الدينية)؛ بمعنى: تفسير الظواهر تفسيرًا دينيًّا؛ أي: الرجوع إلى تحديد علَّة الظواهر إلى الإله، ثم تأتي المرحلة (الميتافيزيقية)؛ أي: ما وراء الطبيعة؛ وهي تمثِّل تطوُّرًا بسيطًا عن الحالة الأولى؛ كالاعتقاد في أنَّ النجوم تسيرُ في دَوائر؛ لأنَّ الدوائر هي أكمَلُ الأشياء، أو تفسير النموِّ في النبات بنِسبته إلى قُوَى الإنبات، وأخيرًا المرحلة (الوضعيَّة) التي تُفسِّر الظواهر بنسبتها إلى القوانين التي تحكُمُها، والأسباب المباشرة التي تُؤثِّر فيها، والاعتماد على الملاحظة والتجريب.
ووفقًا لهذا القانون أطاحَ سان سيمون بالدِّين بعيدًا، واعتبَرَه مرحلةً مضتْ تُعبِّر عن طُفولة الإنسانيَّة، ونظَر إلى العلم كإطارٍ محقَّق وصادق من المعتقدات الراسخة التي تَحلُّ محلَّ الدين، وأنَّه هو الذي سيُقدِّم بدلاً من الدِّين النَّظرةَ المترابطة والشاملة للكون بما فيه الوجود الإنساني على أساسٍ وضعيٍّ، وليس على أساسٍ ديني؛ ذلك لأنَّ المعرفة الإنسانية قد تجاوَزت مرحلةَ التفكير الديني والميتافيزيقي، وستحلُّ طبقة العُلَماء محلَّ ما يسمُّونه برجال الدِّين، وبهذا يكون العلم قد ورِث الدِّينَ إلى الأبد، وسيَفقد ما يسمَّى برجال الدِّين وذوي الخلفيَّات الدينيَّة تفوُّقَهم الثقافي، ويصبحون غير قادِرين على مُنافَسة المثقَّفين الثوريين العقلانيين الصاعِدين، الذين سيَقُودون المجتمعَ ويَهدِمون المجتمع القديم القائم على الدِّين[35].
العلوم الوضعيَّة عند سان سيمون سوف تتصدَّى لما يُسمِّيه بالنُّفوذ الرجعي للأديان، وهي التي سوف تُوفِّر الوسائل الضروريَّة التي تُساعِد على معرفة الطبيعة وإخضاعها.
الدِّين والتفكير العيني عند سان سيمون معرفة مزيَّفة تجبر العقولَ على طاعةٍ عَمياء؛ لهذا فإنَّ التربية الوضعيَّة عنده سوف تُوفِّر معرفة عقلانيَّة يمكن الهيمنة عليها، وربَط سان سيمون بين تقدُّم المعرفة الوضعية وتضاؤل استشارة مَن يسمِّيهم برجال الدِّين في أمور الدنيا، وبذلك يصبح الاتِّصال بالعلماء بطريق مباشر وغير مباشر هو الصورة الوحيدة للإدراك العلمي السليم.
يقرُّ رجال الاجتماع في بلادنا بتأثير هذه الفلسفة الوضعيَّة على بلادنا الإسلاميَّة؛ يقول طلعت عيسى: "هذا الاتِّجاه الفكري الذي نشَأ في فرنسا، وجَد طريقَه إلى الذيوع والنجاح في الشرق مهْد الفلسفات العريقة والفلسفة الإسلاميَّة التي تَقُوم على التوحيد".
والغريب في الأمر أنَّ هذه الفلسفة لم تَلقَ نجاحًا في فرنسا، بل لقيت نجاحًا في بلادنا، وبُنِي على دَعائِمها صرح دول وإمبراطوريَّات في الشرق الإسلامي، كما يقول طلعت عيسى.
أمَّا عن دور الفلسفة الوضعيَّة - أو الفلسفة الإثباتيَّة الإلحاديَّة كما يُسمِّيها الشيخ مصطفى صبري - في القضاء على دولة الخلافة الإسلامية، فيتحدَّث عنها رجال الاجتماع في بلادنا على النحو التالي:
"كانت فكرة الفصْل بين السلطتين الروحيَّة والزمنيَّة هي الدعامة التي تغلغلت على أطرافها الفلسفة الوضعيَّة في الشرق... استولى الخليفة العثماني على مقاليد الأمور باسم الدِّين، وكان بذلك يجمَعُ بين السُّلطتين الروحيَّة والزمنيَّة في الوقت نفسه، فكان حال العالم الإسلامي أشبه بأوربا في العصور الوسطى، وبالملك الذي يستمدُّ سلطته من الله رأسًا لا من الشعب؛ ولهذا وَجدت فكرةُ الفَصل بين السُّلطتين الزمنيَّة والروحيَّة طريقَها إلى قُلوب المسلمين، وكانت الشَّرارة الأولى التي سبَّبت فيما بعدُ إلغاء الخلافة وقِيام الثورة التركية في عام 1908".
كان هذا هو الدور غير المباشر للماسونيَّة في القَضاء على دولة الخلافة الإسلامية عبر الفلسفة الوضعيَّة في علم الاجتماع، أمَّا عن دور الماسونيَّة المباشر في القَضاء على الخلافة، فيَحكِيه السلطان عبدالحميد بنفسه قائلاً:
"إنَّني لم أتخلَّ عن الخلافة الإسلاميَّة لسببٍ ما، سوى بسبب المُضايَقة من رُؤَساء جمعيَّة الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) وتهديدهم، اضطرِرتُ وأُجبِرت على ترك الخلافة، إنَّ هؤلاء الاتِّحاديين قد أصرُّوا وأصرُّوا عليَّ بأنْ أُصادِق على تأسيس وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، ورغم إصرارهم فلم أقبَل بصورةٍ قطعيَّة هذا التكليف، وأخيرًا وعَدُوا بتقديم 150 مليون ليرة إنجليزية ذهبًا، فرفضتُ هذا التكليف بصورةٍ قاطعة أيضًا"[36].
وجمعية الاتِّحاد والترقي هذه التي يتحدَّث عنها السلطان عبدالحميد، تأسَّست في بادئ الأمر في باريس على يد جماعةٍ من الشبان الأتراك، الذين تشبَّعوا بالأفكار الفرنسيَّة، وأمعَنُوا في دراسة الثورة الفرنسيَّة، كانت المحافل الماسونيَّة - وعلى الأخص المحفل الإيطالي في يلانيك - تُرحِّب بأعمال هذه الجمعيَّة، وتنتَصِر لها، وكانت جلساتها تُعقَد في غُرَفِ المحافل الماسونيَّة التي يستَحِيل على الجواسيس أنْ يصلوا إليها مهما بذلوا من جهد، وكان الكثيرون من أعضاء هذه المحافل مندَمِجين في جمعيَّة الاتحاد والترقِّي، وكان أعضاء هذه الجمعية ينتَفِعون بالأساليب الماسونيَّة في الاتِّصال بإسطنبول؛ بل في التقرُّب من القصر ذاته، وأخذت هذه الجمعية تعقد الجلسات السرية وتهيِّئ للثورة ضد الخلافة، وظلَّت كذلك حتى عام 1908؛ حيث قامت بالانقلاب واستولتْ على الحكم.
خلاصة ما سبق:
أنَّ الفيلسوف الفرنسي (سان سيمون) - ذلك الذي استندَتْ إليه مختلف اتِّجاهات علم الاجتماع - كان مرتبطًا برجال المال والمرابين اليهود، كان الغرب يَراه نبيَّ الرأسمالية، في نفس الوقت الذي كانت فقراتٌ كثيرةٌ من البَيان الشيوعي الذي أصدَرَه ماركس وإنجلز مستمدَّة من سان سيمون، دعا سان سيمون إلى إلغاء حق الملكيَّة، وحق الوراثة، وهي نفس بنود المشروع الماسوني الذي صاغَه آدم هوايت، مهَّدت الماسونيَّة وأشعلت الثورة الفرنسيَّة التي عايَشَها وعاصَرها سان سيمون، وكان أكثر الناس ولاءً وحماسًا لها، دعت الماسونيَّة إلى أنْ تحلَّ عِبادة الإنسانيَّة محلَّ عبادة الله، فكرَّس سان سيمون فِكرَه للدعوة إلى الإنسانيَّة، قضَت الماسونيَّة على الأخلاق بعد أنْ قضتْ على الدِّين، وركَّزت على الفن والموسيقا، فدعا سان سيمون إلى نزْع الدِّين من الأخلاق، ثم أعاد بناءَها على الفن والموسيقا، أسس سان سيمون مذهب (الوضعيَّة) الذي كان أحد مَعاوِل هدم الخلافة الإسلاميَّة، وهو نفس ما سعَتْ إليه الماسونيَّة التي كانت وَراء جمعية الاتِّحاد والترقِّي إلى أنْ سقطت الخلافة.
[1] محمود عودة، تاريخ علم الاجتماع، الجزء الأول، دار النهضة العربية، بيروت ص7.
[2] صابر طعيمة، الماسونية ذلك العالم المجهول، دار الجيل بيروت، 1986 ص11 ،12 ،121 ،141، 143، وانظر أيضًا:
E.l.Hawekins, free masonery in encyclopedia of religion and ethics,vol vi N,Y,1967.P.120.
[3] محمد طلعت عيسى، أتباع سان سيمون وفلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر، رسائل جامعية، مطبوعات جامعة القاهرة، 1957 ص 31 ،33، 37، 41، وانظر أيضًا: بيار أنسار، سان سيمون؛ ترجمة: إبراهيم العريس، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، 1979 ص8.
[4] جان لاكرو، أوجست كونت؛ ترجمة: منى النجار، بيروت 1977، ص20-21.
[5] يرفض برودون الأخْذ بالأديان، ويُؤكِّد أن الإنسان وُلِد ليعيش دون الاعتقاد في ديانة ما، تابع: طلعت عيسى ص10، 25.
[6] تابع: محمود عودة ص42.
[7] السيد الحسيني، نحو نظرية اجتماعية نقدية، دار النهضة العربية، بيروت 1985، ص172.
[8] تابع: صابر طعيمة ص399، 426.
[9] تابع: السيد الحسيني ص61.
[10] تابع: طلعت عيسى ص10، انظر أيضًا: هاينزموس، الفكر الاجتماعي؛ ترجمة: السيد الحسيني وجهينة سلطان، ص28.
[11] تابع: طلعت عيسى ص11، 56، 81.
[12] ز.أ.ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث؛ ترجمة: بشير السباعي، ابن خلدون، بيروت، الطبعة الأولى 1978 ص26.
[13] تابع: طلعت عيسى ص39.
[14] تابع: طعيمة ص428-429.
[15]تابع: طلعت عيسى ص94-95.
[16] تابع: طعيمة ص424-425.
[17] J.F.Normano,Saint Aimon And America,Social Forces,oct.1932 PP.8-14.
[18] تابع: طعيمة ص421-424.
[19] تابع: Normano P.9.
[20] انظر: طعيمة ص428، وأيضًا: جواد رفعت اتلخانة، أسرار الماسونية؛ ترجمة: نور الدين الواعظ وسليمان القابلي، مدرسة دار العلوم، قطر ص28.
[21] تابع: محمود عودة ص46.
[22] من أبرَزِ المؤسَّسات الدوليَّة المتغلغِلة في عالَمنا الإسلامي الداعية للنَّزعة الإنسانيَّة (منظمة اليونسكو)، جاء في البيان المشترك لمجموعة الخبراء العشرة المجتمِعين بدعوة من اليونسكو ما نصُّه: "وهذا المجتمع يجبُ أنْ يَأخُذ صورة نزعة إنسانيَّة جديدة، يتحقَّق فيها الشُّمول بالاعتِراف بقِيَمٍ مشتركة تحت شعار تنوُّع الثقافات... إنَّ منظمةً دوليَّة مثل منظمة اليونسكو قادرةٌ على أنْ تدعو جميع قُوَى التربية والعلم والثقافة إلى تكوين نزعةٍ إنسانيَّةٍ كهذه... إنَّ قيام تفاهُم دولي ونزعة إنسانيَّة جديدة هو من جهةٍ ضروريٌّ لنَجاح العلاقات السياسيَّة، كما أنَّ هذا التفاهُم وهذه النَّزعة الإنسانيَّة الجديدة هما من جِهة أخرى عُنصران مهمَّان في مُواصَلة السعي إلى المعرفة"، انظر: أصالة الثقافات ودورها في التفاهم الدولي؛ ترجمة: حافظ الجمالي، دار الفكر العربي، القاهرة 1963 ص426.
ويقول (رينيه ماهو) - المدير العام الفرنسي الأسبق لليونسكو، والذي رافَقَها منذ عام 1946 -: "لقد خطَّط اليونسكو أنْ يُحقِّق هدفًا سياسيًّا مقصودًا، إنها لا تعمَل لمجرَّد تطوير التربية والعلم والثقافة بحدِّ ذاتها... إنَّ منظمة اليونسكو قد مكَّنت رجال يومنا ونساءه من أنْ يظهروا الأمل بصورةٍ كافية إيمانهم بأنَّ الإنسانيَّة واحدة"، ويقول في موضعٍ آخَر: "اليونسكو هي عن قصدٍ منظمة (علمانيَّة) تمامًا، ليس فقط في تركيبها، وإنما أيضًا بمجرَّد مفهومها؛ ولهذا فإنَّ علاقتها بالسلطات الدِّينية علاقة (شك وتحفُّظ)، إلاَّ أنَّه من المُلاحَظ أنَّ هذه العلاقة تتحوَّل مع الصليبيَّة إلى علاقة فهْم متبادَل؛ (بحجة) مساعدة الدول النامية.
وتجمع اليونسكو والصليبية - باعتراف (رينيه ماهو) نفسه - وحدة غرض تحت ادِّعاء (مصير الإنسان على الأرض)"؛ انظر: عزيز الحاج، اليونسكو، 1975 ص129.
ويذكر جَواد اتلخانة أنَّ مُدِيري شُعبة التعليم والثقافة في اليونسكو من اليهود مثل (سومرفيلد) و(جي إيزنهارد)، ويُدِير شُعبة الثقافة العالميَّة اليهوديُّ (ويلكسر)، والاستعلامات اليهودي (كايلن)، والميزانيَّة اليهودي (ويتز)، والهويَّة اليهودي (سبيكي)، والسياحة اليهودي (إيرامسكي)، والتعيين اليهودي (ويرسل)، انظر: جواد اتلخانة، مرجع سابق ص50، انظر كذلك: مفتريات اليونسكو على الإسلام؛ لمحمد عبدالله السمان.
[23] تابع: Hawkins P.120
[24] James Carter, free masonery, in the world book encyclopedia, vol3, childercraft int.inc.P.208
[25] تابع: طعيمة ص415.
[26] W.L.Wilmahurst,The meaning Of Masonery,Bell publishing.Com.N.Y.1980.P.71
[27] ر.م. ماكيفر، تشارلز بيج، المجتمع؛ ترجمة: علي عيسى، مؤسسة فرانكلين، مكتبة النهضة المصرية، الجزء الأول ص343-344.
[28] هنتر، ميد، الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها؛ ترجمة: فؤاد زكريا، القاهرة ص395 وما بعدها.
[29] تابع: طعيمة ص139-140.
[30] تابع: بيار انسار ص128.
[31] يعتقد الكثيرون - ولا سيما في العالم الغربي - بالله ويؤمنون به، لكنَّ اعتقادهم وإيمانهم مبنيٌّ على أنَّ الله (فكرة) وليس بحقيقة، ويرى هؤلاء أنَّ الإيمان بوجود إلهٍ إيمانٌ بوجود فكرة الإلهيَّة، وهي فكرةٌ يقولون: إنها جميلة؛ لأنَّه ما دام الإنسان يتخيَّلها ويعتَقِد فيها، فهو يبتَعِد عن الشرِّ ويقترب من الخير؛ لهذا يَسهُل أنْ يجرَّ هؤلاء الناس إلى الإلحاد والارتداد عن الإيمان بمجرَّد أنْ يبدأ العقل في التفكير في لمس وُجود هذه الفِكرة، فإذا لم يلمس وجودها كَفَرَ بالله وألْحَدَ، والإيمان بالله كفكرةٍ وليس كحقيقة يستَتْبع أنْ يكون الخير والشر فكرةً أيضًا وليس بحقيقةٍ، وقد سار بعض رجال الاجتماع في بلادنا على هذا المنوال فنظَرُوا إلى (الدِّين) على أنَّه ظاهرةٌ، وإلى (الله) على أنَّه فكرة، والصواب أنَّ الله حقيقةٌ وليس بفكرة، وله وجودٌ ملموس ومحسوس، وإنْ كان يستحيل إدراك ذاته.
[32] تابع: طلعت عيسى ص36، 44-45.
[33] محمد الغريب عبدالكريم، نظرية علم الاجتماع المعاصر، المكتب الجامعي الحديث ص72.
[34] تابع Wilmshurst 189.
[35] يقوم المثقفون في عالمنا الإسلامي اليوم بنفس الدور الذي ألقاه على عاتقهم سان سيمون، وما درجات الماجستير والدكتوراه إلاَّ أساليبٌ مرسومةٌ ومخطَّطة ليستَمِع الناس إلى ما يقوله أصحابها، وما يُفتُون به، فيحلُّون بذلك محلَّ علماء الدِّين، ولكن على أساسٍ وضعي، وليس على أساس الكتاب والسنَّة، وهذا هو عين ما حدَث حينما تَمَّ القضاء على المحاكم الشرعية والقُضاة الشرعيين بإحلال رجال القانون والمحاكم المدنيَّة محلهم، انظر أيضًا: طلعت عيسى ص43، 48-53.
[36] انظر: انسار بيار ص 65، وطلعت عيسى ص 113، 114، 126 وطعيمة ص436.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/web/khedr/0/33625/#ixzz4DDU3lWUn
د. أحمد إبراهيم خضر
المصدر: حلقات من كتاب (اعترافات علماء الاجتماع، عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع)
اعترافات علماء الاجتماع
الحلقة الرابعة
مؤشرات الارتباط بين الماسونية وعلم الاجتماع
أخيرًا، سلَّم أحدُ رجال الاجتماع في بلادنا واعتَرَف بأنَّ الشُّكوك تحيطُ بنشأة علم الاجتماع؛ شكوكٌ تتعلَّق باختِيار اسمه ومَجالاته، ومَناهِجه وإجْراءاته، ولماذا تفجَّرَ التبشيرُ بهذا العِلم الجديد في الرُّبع الأوَّل من القَرن الماضي بالذات؟ هل لإقناع الناس بضَرُورة وُجودِه ومشروعيَّته، أم لأنَّ هُناك أهدافًا حقيقيَّة كانت تعمَل من وَراء سِتار؟ يَكفِينا هذا الاعتراف كنُقطةِ بِدايةٍ، وإن توَقف صاحبه عند هذا الحدِّ في كتابه الذي كرَّسَه لخِدمة توجُّهاته الماركسيَّة[1].
واقع الأمر أنَّ تأسيس عِلم الاجتماع - ذلك الذي يُدرَّس في كلِّ جامعاتنا، بما فيها الجامعات الإسلاميَّة - يرتَبِط ارتِباطًا وثيقًا باسم الفيلسوف الفرنسي (أوجست كونت)، وقليلاً ما يُشار إلى هذا الدور المهمِّ الذي لَعِبَه أستاذُه (سان سيمون) في تأسيس هذا العلم، إنَّ (سان سيمون) هذا هو مِفتاحُنا في بَيان مُؤشِّرات العلاقة بين الماسونيَّة وتأسيس علم الاجتماع.
الماسونيَّة في حقيقتها حركةٌ تنظيميَّة ذات طابع عالمي، ولكنَّها ذات هدفٍ يهودي على وجه التحديد تكرِّس كلَّ صور العصر وأدواته للحِفاظ على الإنسان اليهودي، وتُمكِّنه من السَّيْطرة على مَسار المجتمعات الإنسانيَّة، وتوجيه خُطاها بالتحرُّر من كلِّ ضَوابط الإيمان بالله، وهي أيضًا حركةٌ سياسيَّة تعمَل على تَقوِيض أركان كُلِّ سُلطة، دينيَّةً كانت أم مدنيَّةً، وهي في أصلها مؤسَّسة يهوديَّة في تاريخها ودَرجاتها وتعاليمها وكلمات السر فيها؛ أي: إنها يهوديَّة من الألف إلى الياء، وكل ماسوني ما هو إلا تجسيدٌ للعامل اليهودي، وهي في مُعتَقداتها ومُثُلِها ولُغتها وتنظيمها تُعبِّر عن الرُّوح اليهوديَّة، وتَتطلَّع إلى الآمال التي تَتطلَّع إليها إسرائيل وتدعَمُها، وخاصَّة ما يتعلَّق منها بالقدس[2].
أمَّا (سان سيمون)، فهو مفكِّر فرنسيٌّ، وُلِدَ في باريس في 17 أكتوبر 1760 م، كان منذ طُفولته ميَّالاً إلى التحرُّر من الدين ومن سُلطة الأسرة، ألحَقَه والدُه بدير (سان لازار) فترةً من الوقت، لكنَّه كان يُفضِّل السجن عن الالتزام بتعاليم الدِّين، عاش (سان سيمون) في الحي المعروف (رويال بالاس بباريس)، وهو الحي الذي كان يجمع في ذلك الوقت وزارةَ المالية والبورصةَ وبيوتَ اللعب والدعارة، كلاًّ في آنٍ واحد، عاشَر (سان سيمون) امرأةً اسمها (جولي جوليان) عشر سنوات، ثم بعَث بها إلى أحد أصدقائه بعد أنْ وجَدَها عِبئًا عليه، حاوَل الانتِحار فأطلق الرصاص على نفسه، ولم يمتْ؛ لكنَّه فقَد عينَه اليمنى، كانت تصرُّفاته مثيرةً للشك، وباعثةً على الريبة، كان لا يتَّخذ مذهبًا واحدًا في تفكيره، بل يعلن للناس مذهبًا، ويبطن آخَر يسرُّه إلى أصدقائه وخاصَّته، صادر البوليس كتاباته ومخطوطاته، واتَّهمه بالتضليل وهدم المبادئ الدينيَّة[3]، وهو عين ما تسعى إليه الماسونيَّة.
تعرَّف (أوجست كونت) على (سان سيمون) في عام 1817م بعد أنْ بلغ الأخير الستين من عمره، أعجب سان بكونت وجعَلَه سكرتيرًا له مدَّة ست سنوات، وكان من أقرب المقرَّبين إليه، تأثَّر كونت بسان سيمون تأثُّرًا كبيرًا، واستَقَى منه العديدَ من الأفكار المدمِّرة للدِّين؛ كفكرة الإنسانيَّة العالميَّة، وقانون المراحل الثلاث، والفلسفة الوضعيَّة، كان كونت يقول عن أستاذه سان سيمون: إنَّه "إنسان أصيل وطريف، وإنَّه يحمل له صداقة أبديَّة، ويُكنُّ له الحبَّ كوالده"، وما أنْ توتَّرت العلاقة بينهما لم يعدْ كونت يتحدَّث إلا عن "التأثير المشؤوم لصداقته المنحوسة مع أحد المشعوذين المختلِّين الذين التَقَى بهم في المرحلة الأولى من شبابه!"[4] ويقصد به سان سيمون.
وفي حين يرى البعض أنْ سان سيمون وأوجست كونت هما المؤسِّسان الرسميَّان لعلم الاجتماع الغربي، فإنَّ البعض الآخَر ينسب لـ(سان سيمون) وحدَه فضْل إقامة دَعائِم علم الاجتماع الحديث، وعلى رأس هذا البعضِ الفيلسوفُ الفرنسي الماسوني الشهير (برودون)، وهو أحدُ تلامذة سان سيمون، وأحدُ أبرز دُعاة الاشتراكيَّة، لم يكنْ برودون يُخفِي احتِقاره لكونت، وكان يرى أنَّ نظريَّات كونت ليست إلاَّ تكرارًا لنظريَّات سان سيمون[5].
ويرى رجال الاجتماع العرب أنَّ سان سيمون هو مؤسِّس علم الاجتماع الحديث في أوروبا، وأنَّ أهميَّته تَكمُن في أنَّه هو المفكِّر الوحيد الذي استَطاع أنْ يُؤثِّر على كلِّ اتِّجاهات علم الاجتماع المحافظة منها والراديكالية[6]، وهنا تُوضَع علامة استفهام كبرى!
حقيقة الأمر أنَّ الماركسيَّة (سلاح الجناح الراديكالي في علم الاجتماع)، وعلم الاجتماع المحافظ (ممثَّلاً في أوجست كونت) - نبعَا من مصدرٍ واحد، هو علم الاجتماع الغربي، وقد حدَّد (جولدنر) العلاقةَ بين علم الاجتماع والماركسيَّة من ناحية، وسان سيمون من ناحية أخرى، بقوله: إنَّ التصوُّرات السوسيولوجية التي قدَّمها كلٌّ من ماركس وكونت تجدُ جذورها العميقة في فِكر سان سيمون، وقد تحرَّك نصفُ علم الاجتماع المتمثِّل في الماركسية نحو الشرق بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، حتى أصبَحَ العلم الاجتماعي الرسمي في الاتِّحاد السوفياتي، أمَّا النصف الثاني من علم الاجتماع المتمثِّل في علم الاجتماع الأكاديمي، فقد تحرَّك نحو الغرب وشكَّل جُزءًا مهمًّا من الثقافة الأمريكيَّة[7] والماركسيَّة، كما جاء في بَيان المشرق الفرنسي الماسوني الأعظم لعام 1904 بـ(وليدة الماسونيَّة)، وكان مُؤسِّساها (كارل ماركس وفريدريك إنجلز) من ماسونيي الدرجة الحادية والثلاثين، ومن مُؤسِّسي المحفل الإنجليزي، وكانا من الذين أداروا الماسونيَّة السريَّة، وصدَر بفضلهما البَيان الشيوعي المشهور.
وكان النورانيون الماسون قد دعوا في مؤتمرهم في عام 1829م بنيويورك إلى ضمِّ الحركات الفوضويَّة في روسيا وأوربا الوسطى والمجتمعات الإلحاديَّة في أوربا إلى بعضها البعض، وجعلها في منظمة عالمية يُطلَق عليها الشيوعيَّة، وكلف ماركس وإنجلز بِمُقتَضى ذلك بوضْع المبادئ والنظريَّات التي من شأنها تنفيذ المشروع، وتَمَّ إمدادهما بالمال، فكتَبَا في حيِّ سوهو بلندن كتابهما: "رأس المال والبيان الشيوعي".
هذا، وتدلُّ كافَّة الأبحاث السياسيَّة ودراسة التاريخ التحليلي للظواهر الاجتماعيَّة والسياسيَّة على أنَّ الشيوعيَّة ما هي إلا شكلٌ من أشكال العمل الماسوني اليهودي السري الموجَّه[8].
لم يكن كارل ماركس يُكِنُّ أيَّ احترامٍ لأوجست كونت، وكان يعتَبِره مُهرِّجًا سياسيًّا، وعالمًا ضعيفًا[9].
تصدَّى ماركس للدِّفاع عن سان سيمون، وخاصَّة في كتابه "الاقتصاد السياسي والفلسفة"، وهناك عبارات بأكملها استمدَّها ماركس من سان سيمون، وعلى الأخص المتعلقة منها بفكرة علوم الإنسان، والأهم من كلِّ هذا وذاك هو أنَّ كثيرًا من الفقرات التي تضمَّنها المنشور أو البيان الشيوعي الذي أصدره ماركس وإنجلز وردت بصياغات مختلفة في أوَّل استعراض شامل قدَّمه (بازار) أحد تلامذة سان سيمون لمذهبه، وكان (بازار) هو أوَّل مَن استخدم عبارة (استغلال الإنسان لأخيه الإنسان)، وهو التعبير الذي استخدمه من بعده ماركس وأتباعه من الشيوعيين[10].
أمَّا دور كايم عالم الاجتماع الفرنسي اليهودي المعروف، الذي كان يُهدِي روَّاد علم الاجتماع في بلادنا كتبهم إلى روحه، وتعدَّدت الرسائل العلميَّة لطلابنا إعجابًا به وهيامًا به، فقد أكَّد في كتابه عن (الاشتراكيَّة): أنَّه "يجب أنْ ننسب إلى سان سيمون وحدَه الشرف الذي يُنسَب إلى أوجست كونت بأنَّه أنشَأ علمًا جديدًا، هو علم الاجتماع".
ويُضِيف دور كايم أنَّ سان سيمون لم يرسم فقط خطَّة هذا العلم الجديد؛ بل إنَّه حاوَل أنْ ينفذها، ويقول أيضًا بأنَّ جميع الأفكار التي تسود عالمنا اليوم تجد جذورها عند سان سيمون، ويؤكِّد (ماكسيم لروا) أنَّ سان سيمون وليس أوجست كونت هو الذي أنشأ علم الاجتماع، ويعتبر (لروا) أنَّ سان سيمون هو الأستاذ المشترك لكلٍّ من ماركس وبرودون ودور كايم، وأنَّه هو الذي مهد الطريق إلى الاشتراكيَّة.
مهَّد سان سيمون لأفكار ماركس، وأكَّد عالِم الاجتماع (جورج جيرفيتش) في محاضراته بالسوربون عن كارل ماركس وسان سيمون أنَّ ماركس قد تأثَّر بآراء سان سيمون التي عرفها أتْباعه عام 1829 - 1830، كان ماركس صديقًا للشاعر الألماني (هن)، وكان (هن) يتردَّد على صديقه ماركس كثيرًا، وكان يرشده وصديقه الشخصي في العاصمة الفرنسيَّة التي قَدِمَ إليها قبل ماركس، وهو الذي عرَّفه بأتباع سان سيمون وجعَلَه على صلةٍ وثيقة بهم[11].
ويكفي القارئ أنْ يعلم أنَّ هؤلاء الأتْباع الذين كان ماركس على صلةٍ وثيقة بهم قد رحَلُوا إلى مصر خصيصى لضرب الإسلام بأفكار سان سيمون، تمكنوا من احتلال أعلى المناصب، التي كان منها قيادة حرس محمد علي، ونذكِّر القارئ هنا مرَّة أخرى بمقولة ماركس التي امتدح فيها محمد علي لضربه الإسلام قائلاً: "إنَّ محمد علي هو الشخص الوحيد القادر على إحلال رأس حقيقي محلَّ عمامة المراسم"[12].
كان سان سيمون قد التَقَى - كما يقول المؤرخ (ألبير ماتييه) - في عام 1791 بالزعيم الشيوعي (بابيف)، وأصبح سان سيمون بعد هذا اللقاء واحدًا من كِبار الأثرياء بعد أنْ تعدَّدت أسفاره.
هذا، ويمكن بوضوح شديد تلمُّس أفكار كارل ماركس عن الطبقات والصِّراع الطبقي، وتضامُن الطبقة العاملة (البروليتاريا) في فكْر سان سيمون، كان الأخير يرى أنَّ طبقة الصنَّاع يجب أنْ تشغل الصفَّ الأول؛ لأنها أكثر الطبقات أهميَّة؛ لأنَّ الغالبيَّة العُظمَى من المُواطِنين في أيِّ مجتمع ينضَوُون بالضرورة تحت طبقة الصنَّاع، ولكنَّ أفراد هذه الطبقة يفتَقِرون إلى الإحساس بروح التضامُن الطبقي الذي يجمع شملهم، وأنَّه لا بُدَّ من تضافُر الصنَّاع للقَضاء على الطبقة غير المنتجة[13].
هذه المبادئ الاشتراكيَّة - كما تكشف واحدةٌ من المجلات الألمانيَّة الماسونيَّة الصادرة في عام 1894 - كانت خيرَ عضدٍ للماسونيَّة، فناصرَتْها تمامًا، كما جاء في البروتوكول الثالث من بروتوكولات اليهود:
"إنَّنا نقصد أنْ نَظهَر كما لو كنَّا المحرِّرين للعمَّال، جِئنا لنُحرِّرهم من هذا الظُّلم، حينما ننصَحُهم بأنْ يلتَحِقوا بطبقات جيوشنا من الاشتراكيين والفوضويين والشيوعيين، ونحن على الدَّوام نتبنَّى الشيوعيَّة ونحتضنها، متظاهرين بأنَّنا نُساعِدُ العمال طوعًا لمبدأ الأخوَّة والمصلحة العامَّة للإنسانيَّة، وهذا ما تُبشِّر به الماسونيَّة الاجتماعيَّة"[14].
ومن أبرز المبادئ الاشتراكيَّة التي دعا إليها سان سيمون "إلغاء حقِّ الوراثة وإلغاء الملكيَّة الفرديَّة"، تصوَّر سان سيمون أنَّ فَساد المجتمعات ناتجٌ عن وجود الملكيَّة الفرديَّة، ورأى أيضًا أنَّ حقَّ الوراثة يُفسِد العلاقات الاجتماعيَّة[15].
وعن علاقة إلغاء حقِّ الملكيَّة والوراثة بالماسونيَّة هناك مشروع (آدم وايز هوايت) - أستاذ اللاهوت والقانون الديني بجامعة (أنغولد شتات) - الذي اعتَنَق اليهوديَّة، واستَأجَرَه اليهود في عام 1770 لإعادة تنظيم البروتوكولات اليهوديَّة القديمة في ثوبٍ جديدٍ، أنهى (هوايت) مشروعَه في عام 1776، وكان أهم ما تضمَّنته بنود المشروع: إلغاء الإرث، وإلغاء الملكيَّة الخاصَّة، إلى جانب إلغاء الأديان بالطبع[16].
وكما كانت الماسونيَّة وسان سيمون وَراء المبادئ الاشتراكيَّة والنظام الشيوعي، كانا أيضًا وَراء الرأسماليَّة ووَراء العُلوم الاجتماعيَّة، والفلسفة، والاقتصاد، والدِّين، والسياسة، والتاريخ، والتقنية، والصناعة، والحرب الأمريكيَّة، وإنشاء الممرَّات حول العالم، وصِياغة مواثيق عُصبة الأمم لخِدمة الأهداف الماسونيَّة.
يقول جي نورمانو - الأستاذ بجامعة هارفارد - في مقالةٍ يصفُ فيها عالميَّة وإسهامات سان سيمون: "كلُّ العلوم الاجتماعيَّة خصَّبَتْها كتابات سان سيمون، الاشتراكيَّة من صُنع سان سيمون، وهو في نفس الوقت بنى الرأسماليَّة التي تُعَدُّ إحدى الإنجازات التي كان يحلم بها والتي تُميِّز عالمنا اليوم، أثر سان سيمون في الفلسفة والاقتصاد، وفي التاريخ والدِّين والسياسة، هو المؤسِّس الأوَّل لعلم الاجتماع، وهو الذي صاغَ مسوَّدة عُصبة الأمم في عام 1814، وهو فوق كلِّ ذلك قائدٌ للنُّخبة الجديدة من السياسيين والصحفيين ورجال التقنية والصناعة، وهو المتحدِّث الرسمي باسم الجيل الذي يحمل روح التحديث الثائرة، شارَك في الحرب الأمريكيَّة في عام 1779، سافَر إلى المكسيك ليعرض على حاكِمها مَشرُوعًا لإنشاء ممرٍّ يُوصل المحيط بالبحر"[17].
من أين لرجلٍ بمفرده كلُّ هذه القدرات التي تحدَّث عنها نورمانو في مقالته التي كتَبَها دِفاعًا عن سان سيمون وأتباعه؟ سرعان ما تنكَشِف الحقيقة حينما يظهَر ارتباط سان سيمون برجال المال والبنوك اليهود في أوروبا وأمريكا، وعلى رأسهم (روتشيلد).
لَمَع اسم (روتشيلد الأول) - الذي عاش من عام 1743 إلى عام 1812م - في ميادين الصيرفة والمراباة وسائر المعاملات الماليَّة، فوجَّه الحاخامات اليهود أنظارهم لاستِخدامه واستخدام أسرته في تنفيذ مُخطَّطاتهم العالمية الكبرى، ونبَغ في هذا المجال أحدُ أبنائه (ناتان روتشيلد)، فحمل مع أبيه ومن بعده بالاشتراك مع جماعةٍ من رِجال المال اليهود من المُرابين العالميين تنفيذ مخطَّطات الحاخامات اليهود، وكان (روتشيلد الأول) قد دعا اثني عشر يهوديًّا من أرباب المال العالميين إلى (فرانكفورت)، وكان إذ ذاك في الثلاثين من عمره، وعقد المجتمِعون مؤتمرًا لتأسيس احتكارٍ عالمي يَسُوقون فيه أموال العالم إلى سُلطانهم؛ لتَسخِيرها في تحقيق الأهداف اليهوديَّة العالميَّة[18].
أُعجِب (روتشيلد) بأفكار (سان سيمون)، وتُشِير المذكِّرات المعاصرة إلى تَعاطُف (آل روتشيلد) اليهود مع أتْباع سيمون وأفكارهم، تلك التي حمَلُوها معهم إلى مصر وحاوَلُوا تطبيقها، هناك أيضًا علاقة سيمون مع رجل البنوك اليهودي (أوليند رودريج)، الذي أخَذ على عاتِقِه مهمَّة نشْر أفكاره وتحمل تكاليف ذلك.
يُضاف إلى ذلك أنَّ أخلص تلاميذ سان سيمون - وهو (إنفانتان)، قائد حملة الأتباع إلى مصر - كان ابنًا لأحد رجال البنوك، وكان (سان سيمون) على علاقةٍ وثيقة (بفرنسيسكو كابرس) مؤسس بنك (سانت تشارلز) بإسبانيا، الذي عرض بالاشتراك معه على الحكومة الإسبانية مشروع قناة (إنبار تيرو).
وكما كان الشيوعيُّون وراء سان سيمون وهو يتحدَّث عن تضامُن الطبقة العاملة والصِّراع الطبقي وإلغاء الملكيَّة الفرديَّة وحق الإرث - كان الرأسماليون وراءه أيضًا، كان رجال الأعمال من أكبَرِ المدافعين عنه وهو يتحدَّث عن ضرورة سَيْطرتهم على الثروات العامَّة، والانفِراد بحكم البلاد، وضرورة أنْ يعهد إليهم بإدارة الثروات العامَّة؛ لأنهم - في نظره - هم الذين يستطيعون تحقيق رغبات الرأي العام[19].
وبذلك تمكَّن اليهود من إحكام سَيْطرتهم المالية على العالم بمختلف نُظُمِه التي كانوا وراءها، سواء أكانت اشتراكيَّة أم رأسماليَّة.
إنَّ وقفةً دقيقة عند الكلمات التي أشرنا إليها لنورمانو عن سان سيمون، وارتباطات الأخير برجال البنوك والمال اليهود، وخاصَّة (آل روتشيلد)، وكذلك عند مقولة (دور كايم): "إنَّ جميع الأفكار التي تَسُودُ عالمنا اليوم تجدُ جذورها عند سان سيمون" - لَتَكشِفُ بوضوحٍ أنَّ عِلم الاجتماع لم يكنْ إلاَّ اختراعًا ماسونيًّا يهوديًّا، رُوعِي فيه أنْ يحتوي ويشتَمِل على مختلف التيَّارات الفكريَّة التي تُوجِّه حركة المجتمع، سواء أكانت محافظة أو ثوريَّة، بحيث لا تَخرُج عن الأُطُر التي حُدِّدتْ لها، لكن هذه التيَّارات مهما اختلفَتْ، فإنها تتَّفِق على شيءٍ واحد، وهو (ضرب الدِّين).
يضرب الاتِّجاه المحافظ الدِّين بدعوى الإيمان بالقيم الإيجابية للجوانب غير العقلانيَّة من السلوك؛ كالتقاليد والخيال والمشاعر والدِّين، مع القول باستحالة إقامة ما يُسمُّونه بالعقائد الدينيَّة التقليديَّة بشَكلِها القديم، ثم العمل على إيجاد مجموعةٍ من المعتقدات والقِيَم التي تَظهَر في دِيانةٍ وضعيَّة علميَّة يلتفُّ الناس حولها، لكنَّها ليس لها ارتباطٌ بإلهٍ أو جنَّة أو نار، ويضرب الاتجاه الثوري الدِّين ضربًا مباشرًا بنَقدِه العنيف للدِّين، ورفضه ما يسمِّيه بالعقليَّة اللاهوتيَّة الغيبيَّة.
وتُعتَبر الثورة الفرنسيَّة أحد أوجُهِ الارتِباط بين سان سيمون والماسونيَّة، مهَّدت الماسونيَّة للثورة الفرنسيَّة كما جاء في مجلَّتها آكاسيا الصادرة في عام 1903، ولعبت الماسونيَّة - كما جاء في محفل إنكرس الأكبر الماسوني عام 1923 - أهم الأدوار في إشْعال الثورة الفرنسيَّة، وقال الماسون فيها: "يجب أنْ نكون على أُهبَة الاستعداد للقِيام بأيِّ ثورةٍ منتظرة في المستقبل"[20].
عاصَر سان سيمون هذه الثورة وعايَش أحداثها، وتكشف سجلات الثورة المدوَّنة أنه أصبح في فترات لاحقةٍ أكثر ولاءً وحماسًا لها، وشارَك في بعض إجراءاتها، بل إنَّه مُنِحَ في عام 1793 شهادة المواطن الصالح مرَّتين، وشارَك أيضًا في خريف العام نفسه كعضوٍ فعَّال في الحلقات الثوريَّة المتطرِّفة في باريس[21].
أمَّا أبرز صُوَرِ العلاقة بين سان سيمون والماسونيَّة، فهي (فكرة الإنسانية) التي تُعتَبر المحور الأساس الذي تدورُ في فلكه نظريَّات علم الاجتماع[22].
يقول (هاوكنز) في "موسوعة الدِّين والأخلاق": "إنَّه يمكن أنْ ننظُر إلى الماسونيَّة على أنها دِين من صُنع الإنسان"[23].
أمَّا جيمس كارتر، فيقول: "إنَّ الماسونيَّة تُحاوِل أنْ تنمِّي دينًا جديدًا يتَّفق عليه كل الناس"[24].
وفكرة الإنسانيَّة العالميَّة هذه فكرةٌ ماسونيَّة تهدف إلى أنْ تحلَّ عبادة الإنسانيَّة محلَّ العبادة بدلاً من الله، وقد جاء في مضابط الشرق الأعظم الماسوني عام 1913 قولهم: "وسوف نتَّخذ الإنسانية غايةً من دون الله"[25]، وجاء أيضًا في كتاب "معنى الماسونيَّة" قول (ولمشهرست): "لا يَزال المعبد غير مكتمل الآن ولم ينتهِ بعد، إنَّه هذا الكيان الجمعي من الإنسانيَّة نفسها، ونحن نعرف كيف نُكمِله"[26].
والمذهب الإنساني أو النَّزعة الإنسانيَّة كما يَراه عالِمَا الاجتماع (ماكيفر وبيج) مذهب يَنزِع إلى التخلِّي عن أحكام ما فوق الطبيعة المتعلقة بالخلق والجنَّة والنار، وما تنطَوِي عليه النَّفس من خطيئة، وما أشبَهَ ذلك... ثم يعمل جاهدًا على أنْ يجمع الناس على أساسٍ من قواعد الأخلاق الاجتماعيَّة، لا على أساس المذهب الديني، أو الجماعات الدينيَّة، أو المعتقدات بوجهٍ عام[27].
والنَّزعة الإنسانيَّة طريقةٌ للتفكير تؤكِّد على أهميَّة الإنسان في طبيعته ومكانه في العالَم، وتجعَل من الإنسان وليس الله محورَ الكون؛ ولهذا فإنَّ الإنسانيَّة في جملتها وتفصيلها ثورة ضد الدِّين الذي لا تؤمن به ولا بالتدخُّل الإلهي، وترفض الله والغيبيَّات، وليس فيها مكانٌ لما هو مقدَّس أو مُوحًى به، وترى أنَّ مستقبل الحياة على الأرض يقَع على أكتاف الإنسان وحده؛ ولذا فهي تُركِّز على الحياة الدنيا دون الآخرة.
هذا، وقد أعادَ أصحاب النَّزعة الإنسانيَّة في العصر الحديث تعريف (الدين والله) بصورةٍ تؤدِّي إلى الاستِغناء عنهما بطريقةٍ مُستترةٍ غير مباشرة، لا بطريقةٍ صريحة مكشوفة.
(الله) عند البعض منهم: هو المُثُل الإنسانيَّة العليا والمبادئ الاجتماعية وحدَها، وعند البعض الثاني: هو الذات الشاملة في كلٍّ منَّا، وعند البعض الثالث: هو التفاعُل المتبادَل بين الأفراد، ومن ثَمَّ تبتَعِد هذه التعريفات عن المفهوم الحقيقي للألوهيَّة، وتقطع الصلة تمامًا بينها وبين مفهوم (الله) المألوف عند الناس.
أمَّا (الدِّين)، فهو عند أصحاب النَّزعة الإنسانية: اتِّجاه أو موقف وليس بمضمون، فالشيوعيَّة والإلحاد تدخُل بذلك ضمن الأديان، ويرى (لامونت) أنَّ أيَّ دعوة منظمة تنظيمًا اجتماعيًّا تنجَح في كسْب وَلاء الناس وعواطفهم هي دِين، وعلى هذا الأساس تكون: كرة القدم، ونقابات العمال، والإجراءات السياسيَّة، والجيوش، والجمعيات الأدبيَّة، من ضروب النشاط الدِّيني[28].
وتقول النشرة الماسونيَّة في 15 ديسمبر 1866: "علينا نحن الماسون أنْ نتحرَّر من كلِّ اعتقاد بوجود الله".
وجاء في نشرة 1922 القول: "ستقوم الماسونيَّة مقام الدِّين، والمحافل مقام المعابد".
وجاء في نشرة الشرق الأعظم في فرنسا في يوليو 1856: "نحن الماسون لا يُمكِننا أنْ نتوقَّف عن الحرب بيننا وبين الأديان؛ لأنَّه لا مَناصَ من ظفرها أو ظفرنا، ولا بُدَّ من موتها أو موتنا، ولن نَرتاح إلا بعد إقفال جميع المعابد"[29].
أمَّا (سان سيمون)، فقد أوضَحنا أنَّه كان منذ طُفولته ميَّالاً إلى التحرُّر من شؤون الدِّين، وكان يرى أنَّ الدِّين ما هو إلا اختراعٌ قامت به الإنسانيَّة، والعلم عنده هو الذي يجبُ أنْ يكون دِيانةَ المستقبل، يقول سان سيمون في أحد كتاباته: "بالنسبة لكم أيها السادة الذين تعلَمون جيدًا كم باتَت العقائد القديمة خاليةً من القوَّة والحياة، باتَ لا مفرَّ من أنْ تَشعُروا بقوَّة الحاجة إلى عقيدةٍ عامَّة جديدة تنتَمِي إلى الحالة الراهنة للحضارة والمعارف".
وقال أيضًا في موضعٍ آخَر: "إنَّ الدِّين يُصابُ بالشيخوخة مثْل المؤسسات الأخرى، وهو مثْل المؤسسات الأخرى بحاجةٍ إلى أنْ يتجدَّد بعد فترةٍ من الزمن"[30].
ويظهر اتِّجاه سان سيمون المادي الإلحادي على النحو التالي:
1- يرى سان سيمون أنَّ الإنسان هو الذي اختَرَع الله مَدفوعًا بدوافع ماديَّة، وبعد أنْ تَمَّ له ذلك الاختراع اعتَقَد في أهميَّة نفسه، ويذهَبُ سان سيمون إلى أبعد من ذلك فيقول: "إنَّ فكرة الله[31] في الحقيقة فكرةٌ ماديَّة، وهي نتيجةٌ لدورة السائل العصبي في المخ".
2- اقتَرَح سان سيمون تكوينَ جمعيَّة من واحدٍ وعشرين عُضوًا لتمثيل الإرادة الإلهيَّة في هذا الكون.
ويقول سان سيمون: إنَّ الله يُحدِّثه ويُوحِي إليه بفكرة الديانة الجديدة - ديانة نيوتن - ويقول له: "إنَّ مجلس نيوتن سوف يُمثِّلني على الأرض"، فيقسم الإنسانيَّة إلى أربعة أقسام: (الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية)، وسوف يكون لكلِّ قسمٍ من هذه الأقسام مجلس على غِرار المجلس الرئيس، وسوف يرتَبِط كلُّ فرعٍ في العالم - مهما كان مَوطِنه - بأحدِ هذه الأقسام (الأوربية الغربية بالطبع)، وبالمجلس الرئيس، ومجلس القسم الذي يتبعه، وينتخب النساء في هذه المجالس على قدَم المساواة مع الرجال[32].
ومن المُضحِكات المُبكِيات أنْ يَعرِض رجال الاجتماع في بلادنا على طلابهم آراء سان سيمون بإدارة شؤون الإنسانيَّة وفقًا للجنسيَّات السالفة الذكر، بطريقةٍ تعكس مدى ضَحالة ونضب العقيدة فيهم، بالإضافة إلى السطحيَّة الشديدة في الفَهم.
هذا محمد الغريب عبدالكريم - أستاذ ورئيس قسمي الاجتماع وعلم النفس بجامعة أسيوط بمصر - بدلاً من أنْ يشرَحَ لطلاَّبه ما وَراء أفكار سان سيمون، نجدُه يحتجُّ على سان سيمون؛ لأنَّه تجاهَل أقدم شعوب الأرض، مثل: الشعب المصري، والهندي، والصيني... التي كانت يجب أنْ تُمثَّل في مجلس نيوتن الذي يُمثِّل الإرادة الإلهيَّة لإدارة شؤون الإنسانيَّة[33].
3- كتَب سان سيمون مشروعَ تأسيس موسوعة يدخل تحتها كل ما هو ليس (بدِيني)، وقال في هذا المشروع: "إنَّني أعتقدُ في الله الذي خلَق العالم وأخضَعَه لقانون الجاذبيَّة"، هذا (الإله) الذي يعتَقِد فيه سان سيمون ليس سوى مصطلح جديد للطبيعة في صُورتها المثاليَّة، أو كما يُعبِّر عنه بأنَّه: "النظام العظيم للأشياء"، وقد حدَّد رجال الاجتماع العرب (الله) عند سان سيمون بأنَّه إلهٌ مجرَّد لا شخصي، خالدٌ في الطبيعي، ومذهبه النهائي شكلٌ من أشكال وحدة الوجود.
وعن اتِّساق مفهوم سان سيمون عن الله مع مفهوم الماسونيَّة، يقول تلميذه الفيلسوف الاشتراكي الماسوني (برودون): "ليست الماسونيَّة سوى نكران جوهر الدين، وإنْ قال الماسون بوجود الله أرادوا به الطبيعة وقواها الماديَّة، أو جعَلُوا الإنسان والله كشيءٍ واحد"أو أو جعلوا الإنسان والله ككشئ واحد، ونتيجةً لهذا الإلحاد البيِّن؛ فقد صُودِرت مخطوطات مشروع إنشاء الموسوعة الجديدة، واتُّهِم سان سيمون بالتضليل وهدْم المبادئ الدِّينيَّة.
4- ارتَبَط هدْم سان سيمون للدِّين بهدْم الأخلاق القائمة على الدِّين، ودعا إلى أخلاق دنيويَّة تقومُ على العمل والتعامُل بمنأى عن كلِّ نزعةٍ روحيَّة أو سماويَّة؛ بمعنى: إعادة بناء الأخلاق على أسسٍ جديدة، يتمُّ عبرها الانتقالُ من الأخلاق السماويَّة إلى الأخلاق الأرضيَّة التي تَتلاءَم في تصوُّره مع التطوُّر الفكري والعلمي المعاصر، ويقرُّ رجال الاجتماع العرب بأنَّ الأخلاق عند سان سيمون مسألة دنيويَّة علمانيَّة أساسًا لا غاية لها فيما وَراء القضايا الزمنيَّة، وهدفها تحقيقُ أقصى قدرٍ من السعادة في الحياة.
5- بعد أنْ قضى سان سيمون على الدِّين والأخلاق القائمة عليه، أبرَزَ دور (الفن)، هذا السلاح الماسوني المهم، وقال: إنَّ الفن سيُسهِم في صِياغة الأخلاق القائمة في المجتمع، وسيُشكِّل المعتقدات والآراء والمشاعر.
أمَّا الموسيقا، فهي عند سان سيمون وسيلةٌ من وسائل التثقيف الخلفي، وقد حدَّد (ولمشهرست) في كتابه "معنى الماسونيَّة" علاقتها بالموسيقا قائلاً: "إنَّ الموسيقا ليست هي هذا النوع الوسيلي أو الذي يُعبَّر عنه بالصوت، إنها التطبيق الحيُّ لفلسفتنا، إنها توافق الحياة الإنسانيَّة بانسجامٍ مع الله، حتى تُصبِح الروح الشخصيَّة متَّحدة مع الله"[34].
6- أسَّس سان سيمون مذهب (الوضعية)، هذا المذهب الذي انخدَع به عُلَماء الأزهر في بلادنا، وكان أحد المَعاوِل المهمَّة التي قَضَتْ على دولة الخلافة الإسلاميَّة، يُمثِّل هذا المذهب مدرسةً قائمة بذاتها في علم الاجتماع.
وقد كان مذهبًا معروفًا في القرن السابع عشر والثامن عشر، ولكنَّه لم يكن معروفًا بهذا الاسم، يعني المذهبُ الوضعي عند سان سيمون تطبيقَ المبادئ العلميَّة على جميع الظواهر الطبيعية والإنسانية، وفهمها في ضوء هذه المبادئ مجرَّدةً من (الدين) تمامًا.
كان سان سيمون مقتنعًا بأنَّ المعرفة الأساسيَّة قد تطوَّرت عبر ثلاث مراحل، هي: المرحلة (اللاهوتية أو الدينية)؛ بمعنى: تفسير الظواهر تفسيرًا دينيًّا؛ أي: الرجوع إلى تحديد علَّة الظواهر إلى الإله، ثم تأتي المرحلة (الميتافيزيقية)؛ أي: ما وراء الطبيعة؛ وهي تمثِّل تطوُّرًا بسيطًا عن الحالة الأولى؛ كالاعتقاد في أنَّ النجوم تسيرُ في دَوائر؛ لأنَّ الدوائر هي أكمَلُ الأشياء، أو تفسير النموِّ في النبات بنِسبته إلى قُوَى الإنبات، وأخيرًا المرحلة (الوضعيَّة) التي تُفسِّر الظواهر بنسبتها إلى القوانين التي تحكُمُها، والأسباب المباشرة التي تُؤثِّر فيها، والاعتماد على الملاحظة والتجريب.
ووفقًا لهذا القانون أطاحَ سان سيمون بالدِّين بعيدًا، واعتبَرَه مرحلةً مضتْ تُعبِّر عن طُفولة الإنسانيَّة، ونظَر إلى العلم كإطارٍ محقَّق وصادق من المعتقدات الراسخة التي تَحلُّ محلَّ الدين، وأنَّه هو الذي سيُقدِّم بدلاً من الدِّين النَّظرةَ المترابطة والشاملة للكون بما فيه الوجود الإنساني على أساسٍ وضعيٍّ، وليس على أساسٍ ديني؛ ذلك لأنَّ المعرفة الإنسانية قد تجاوَزت مرحلةَ التفكير الديني والميتافيزيقي، وستحلُّ طبقة العُلَماء محلَّ ما يسمُّونه برجال الدِّين، وبهذا يكون العلم قد ورِث الدِّينَ إلى الأبد، وسيَفقد ما يسمَّى برجال الدِّين وذوي الخلفيَّات الدينيَّة تفوُّقَهم الثقافي، ويصبحون غير قادِرين على مُنافَسة المثقَّفين الثوريين العقلانيين الصاعِدين، الذين سيَقُودون المجتمعَ ويَهدِمون المجتمع القديم القائم على الدِّين[35].
العلوم الوضعيَّة عند سان سيمون سوف تتصدَّى لما يُسمِّيه بالنُّفوذ الرجعي للأديان، وهي التي سوف تُوفِّر الوسائل الضروريَّة التي تُساعِد على معرفة الطبيعة وإخضاعها.
الدِّين والتفكير العيني عند سان سيمون معرفة مزيَّفة تجبر العقولَ على طاعةٍ عَمياء؛ لهذا فإنَّ التربية الوضعيَّة عنده سوف تُوفِّر معرفة عقلانيَّة يمكن الهيمنة عليها، وربَط سان سيمون بين تقدُّم المعرفة الوضعية وتضاؤل استشارة مَن يسمِّيهم برجال الدِّين في أمور الدنيا، وبذلك يصبح الاتِّصال بالعلماء بطريق مباشر وغير مباشر هو الصورة الوحيدة للإدراك العلمي السليم.
يقرُّ رجال الاجتماع في بلادنا بتأثير هذه الفلسفة الوضعيَّة على بلادنا الإسلاميَّة؛ يقول طلعت عيسى: "هذا الاتِّجاه الفكري الذي نشَأ في فرنسا، وجَد طريقَه إلى الذيوع والنجاح في الشرق مهْد الفلسفات العريقة والفلسفة الإسلاميَّة التي تَقُوم على التوحيد".
والغريب في الأمر أنَّ هذه الفلسفة لم تَلقَ نجاحًا في فرنسا، بل لقيت نجاحًا في بلادنا، وبُنِي على دَعائِمها صرح دول وإمبراطوريَّات في الشرق الإسلامي، كما يقول طلعت عيسى.
أمَّا عن دور الفلسفة الوضعيَّة - أو الفلسفة الإثباتيَّة الإلحاديَّة كما يُسمِّيها الشيخ مصطفى صبري - في القضاء على دولة الخلافة الإسلامية، فيتحدَّث عنها رجال الاجتماع في بلادنا على النحو التالي:
"كانت فكرة الفصْل بين السلطتين الروحيَّة والزمنيَّة هي الدعامة التي تغلغلت على أطرافها الفلسفة الوضعيَّة في الشرق... استولى الخليفة العثماني على مقاليد الأمور باسم الدِّين، وكان بذلك يجمَعُ بين السُّلطتين الروحيَّة والزمنيَّة في الوقت نفسه، فكان حال العالم الإسلامي أشبه بأوربا في العصور الوسطى، وبالملك الذي يستمدُّ سلطته من الله رأسًا لا من الشعب؛ ولهذا وَجدت فكرةُ الفَصل بين السُّلطتين الزمنيَّة والروحيَّة طريقَها إلى قُلوب المسلمين، وكانت الشَّرارة الأولى التي سبَّبت فيما بعدُ إلغاء الخلافة وقِيام الثورة التركية في عام 1908".
كان هذا هو الدور غير المباشر للماسونيَّة في القَضاء على دولة الخلافة الإسلامية عبر الفلسفة الوضعيَّة في علم الاجتماع، أمَّا عن دور الماسونيَّة المباشر في القَضاء على الخلافة، فيَحكِيه السلطان عبدالحميد بنفسه قائلاً:
"إنَّني لم أتخلَّ عن الخلافة الإسلاميَّة لسببٍ ما، سوى بسبب المُضايَقة من رُؤَساء جمعيَّة الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) وتهديدهم، اضطرِرتُ وأُجبِرت على ترك الخلافة، إنَّ هؤلاء الاتِّحاديين قد أصرُّوا وأصرُّوا عليَّ بأنْ أُصادِق على تأسيس وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، ورغم إصرارهم فلم أقبَل بصورةٍ قطعيَّة هذا التكليف، وأخيرًا وعَدُوا بتقديم 150 مليون ليرة إنجليزية ذهبًا، فرفضتُ هذا التكليف بصورةٍ قاطعة أيضًا"[36].
وجمعية الاتِّحاد والترقي هذه التي يتحدَّث عنها السلطان عبدالحميد، تأسَّست في بادئ الأمر في باريس على يد جماعةٍ من الشبان الأتراك، الذين تشبَّعوا بالأفكار الفرنسيَّة، وأمعَنُوا في دراسة الثورة الفرنسيَّة، كانت المحافل الماسونيَّة - وعلى الأخص المحفل الإيطالي في يلانيك - تُرحِّب بأعمال هذه الجمعيَّة، وتنتَصِر لها، وكانت جلساتها تُعقَد في غُرَفِ المحافل الماسونيَّة التي يستَحِيل على الجواسيس أنْ يصلوا إليها مهما بذلوا من جهد، وكان الكثيرون من أعضاء هذه المحافل مندَمِجين في جمعيَّة الاتحاد والترقِّي، وكان أعضاء هذه الجمعية ينتَفِعون بالأساليب الماسونيَّة في الاتِّصال بإسطنبول؛ بل في التقرُّب من القصر ذاته، وأخذت هذه الجمعية تعقد الجلسات السرية وتهيِّئ للثورة ضد الخلافة، وظلَّت كذلك حتى عام 1908؛ حيث قامت بالانقلاب واستولتْ على الحكم.
خلاصة ما سبق:
أنَّ الفيلسوف الفرنسي (سان سيمون) - ذلك الذي استندَتْ إليه مختلف اتِّجاهات علم الاجتماع - كان مرتبطًا برجال المال والمرابين اليهود، كان الغرب يَراه نبيَّ الرأسمالية، في نفس الوقت الذي كانت فقراتٌ كثيرةٌ من البَيان الشيوعي الذي أصدَرَه ماركس وإنجلز مستمدَّة من سان سيمون، دعا سان سيمون إلى إلغاء حق الملكيَّة، وحق الوراثة، وهي نفس بنود المشروع الماسوني الذي صاغَه آدم هوايت، مهَّدت الماسونيَّة وأشعلت الثورة الفرنسيَّة التي عايَشَها وعاصَرها سان سيمون، وكان أكثر الناس ولاءً وحماسًا لها، دعت الماسونيَّة إلى أنْ تحلَّ عِبادة الإنسانيَّة محلَّ عبادة الله، فكرَّس سان سيمون فِكرَه للدعوة إلى الإنسانيَّة، قضَت الماسونيَّة على الأخلاق بعد أنْ قضتْ على الدِّين، وركَّزت على الفن والموسيقا، فدعا سان سيمون إلى نزْع الدِّين من الأخلاق، ثم أعاد بناءَها على الفن والموسيقا، أسس سان سيمون مذهب (الوضعيَّة) الذي كان أحد مَعاوِل هدم الخلافة الإسلاميَّة، وهو نفس ما سعَتْ إليه الماسونيَّة التي كانت وَراء جمعية الاتِّحاد والترقِّي إلى أنْ سقطت الخلافة.
[1] محمود عودة، تاريخ علم الاجتماع، الجزء الأول، دار النهضة العربية، بيروت ص7.
[2] صابر طعيمة، الماسونية ذلك العالم المجهول، دار الجيل بيروت، 1986 ص11 ،12 ،121 ،141، 143، وانظر أيضًا:
E.l.Hawekins, free masonery in encyclopedia of religion and ethics,vol vi N,Y,1967.P.120.
[3] محمد طلعت عيسى، أتباع سان سيمون وفلسفتهم الاجتماعية وتطبيقها في مصر، رسائل جامعية، مطبوعات جامعة القاهرة، 1957 ص 31 ،33، 37، 41، وانظر أيضًا: بيار أنسار، سان سيمون؛ ترجمة: إبراهيم العريس، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، 1979 ص8.
[4] جان لاكرو، أوجست كونت؛ ترجمة: منى النجار، بيروت 1977، ص20-21.
[5] يرفض برودون الأخْذ بالأديان، ويُؤكِّد أن الإنسان وُلِد ليعيش دون الاعتقاد في ديانة ما، تابع: طلعت عيسى ص10، 25.
[6] تابع: محمود عودة ص42.
[7] السيد الحسيني، نحو نظرية اجتماعية نقدية، دار النهضة العربية، بيروت 1985، ص172.
[8] تابع: صابر طعيمة ص399، 426.
[9] تابع: السيد الحسيني ص61.
[10] تابع: طلعت عيسى ص10، انظر أيضًا: هاينزموس، الفكر الاجتماعي؛ ترجمة: السيد الحسيني وجهينة سلطان، ص28.
[11] تابع: طلعت عيسى ص11، 56، 81.
[12] ز.أ.ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث؛ ترجمة: بشير السباعي، ابن خلدون، بيروت، الطبعة الأولى 1978 ص26.
[13] تابع: طلعت عيسى ص39.
[14] تابع: طعيمة ص428-429.
[15]تابع: طلعت عيسى ص94-95.
[16] تابع: طعيمة ص424-425.
[17] J.F.Normano,Saint Aimon And America,Social Forces,oct.1932 PP.8-14.
[18] تابع: طعيمة ص421-424.
[19] تابع: Normano P.9.
[20] انظر: طعيمة ص428، وأيضًا: جواد رفعت اتلخانة، أسرار الماسونية؛ ترجمة: نور الدين الواعظ وسليمان القابلي، مدرسة دار العلوم، قطر ص28.
[21] تابع: محمود عودة ص46.
[22] من أبرَزِ المؤسَّسات الدوليَّة المتغلغِلة في عالَمنا الإسلامي الداعية للنَّزعة الإنسانيَّة (منظمة اليونسكو)، جاء في البيان المشترك لمجموعة الخبراء العشرة المجتمِعين بدعوة من اليونسكو ما نصُّه: "وهذا المجتمع يجبُ أنْ يَأخُذ صورة نزعة إنسانيَّة جديدة، يتحقَّق فيها الشُّمول بالاعتِراف بقِيَمٍ مشتركة تحت شعار تنوُّع الثقافات... إنَّ منظمةً دوليَّة مثل منظمة اليونسكو قادرةٌ على أنْ تدعو جميع قُوَى التربية والعلم والثقافة إلى تكوين نزعةٍ إنسانيَّةٍ كهذه... إنَّ قيام تفاهُم دولي ونزعة إنسانيَّة جديدة هو من جهةٍ ضروريٌّ لنَجاح العلاقات السياسيَّة، كما أنَّ هذا التفاهُم وهذه النَّزعة الإنسانيَّة الجديدة هما من جِهة أخرى عُنصران مهمَّان في مُواصَلة السعي إلى المعرفة"، انظر: أصالة الثقافات ودورها في التفاهم الدولي؛ ترجمة: حافظ الجمالي، دار الفكر العربي، القاهرة 1963 ص426.
ويقول (رينيه ماهو) - المدير العام الفرنسي الأسبق لليونسكو، والذي رافَقَها منذ عام 1946 -: "لقد خطَّط اليونسكو أنْ يُحقِّق هدفًا سياسيًّا مقصودًا، إنها لا تعمَل لمجرَّد تطوير التربية والعلم والثقافة بحدِّ ذاتها... إنَّ منظمة اليونسكو قد مكَّنت رجال يومنا ونساءه من أنْ يظهروا الأمل بصورةٍ كافية إيمانهم بأنَّ الإنسانيَّة واحدة"، ويقول في موضعٍ آخَر: "اليونسكو هي عن قصدٍ منظمة (علمانيَّة) تمامًا، ليس فقط في تركيبها، وإنما أيضًا بمجرَّد مفهومها؛ ولهذا فإنَّ علاقتها بالسلطات الدِّينية علاقة (شك وتحفُّظ)، إلاَّ أنَّه من المُلاحَظ أنَّ هذه العلاقة تتحوَّل مع الصليبيَّة إلى علاقة فهْم متبادَل؛ (بحجة) مساعدة الدول النامية.
وتجمع اليونسكو والصليبية - باعتراف (رينيه ماهو) نفسه - وحدة غرض تحت ادِّعاء (مصير الإنسان على الأرض)"؛ انظر: عزيز الحاج، اليونسكو، 1975 ص129.
ويذكر جَواد اتلخانة أنَّ مُدِيري شُعبة التعليم والثقافة في اليونسكو من اليهود مثل (سومرفيلد) و(جي إيزنهارد)، ويُدِير شُعبة الثقافة العالميَّة اليهوديُّ (ويلكسر)، والاستعلامات اليهودي (كايلن)، والميزانيَّة اليهودي (ويتز)، والهويَّة اليهودي (سبيكي)، والسياحة اليهودي (إيرامسكي)، والتعيين اليهودي (ويرسل)، انظر: جواد اتلخانة، مرجع سابق ص50، انظر كذلك: مفتريات اليونسكو على الإسلام؛ لمحمد عبدالله السمان.
[23] تابع: Hawkins P.120
[24] James Carter, free masonery, in the world book encyclopedia, vol3, childercraft int.inc.P.208
[25] تابع: طعيمة ص415.
[26] W.L.Wilmahurst,The meaning Of Masonery,Bell publishing.Com.N.Y.1980.P.71
[27] ر.م. ماكيفر، تشارلز بيج، المجتمع؛ ترجمة: علي عيسى، مؤسسة فرانكلين، مكتبة النهضة المصرية، الجزء الأول ص343-344.
[28] هنتر، ميد، الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها؛ ترجمة: فؤاد زكريا، القاهرة ص395 وما بعدها.
[29] تابع: طعيمة ص139-140.
[30] تابع: بيار انسار ص128.
[31] يعتقد الكثيرون - ولا سيما في العالم الغربي - بالله ويؤمنون به، لكنَّ اعتقادهم وإيمانهم مبنيٌّ على أنَّ الله (فكرة) وليس بحقيقة، ويرى هؤلاء أنَّ الإيمان بوجود إلهٍ إيمانٌ بوجود فكرة الإلهيَّة، وهي فكرةٌ يقولون: إنها جميلة؛ لأنَّه ما دام الإنسان يتخيَّلها ويعتَقِد فيها، فهو يبتَعِد عن الشرِّ ويقترب من الخير؛ لهذا يَسهُل أنْ يجرَّ هؤلاء الناس إلى الإلحاد والارتداد عن الإيمان بمجرَّد أنْ يبدأ العقل في التفكير في لمس وُجود هذه الفِكرة، فإذا لم يلمس وجودها كَفَرَ بالله وألْحَدَ، والإيمان بالله كفكرةٍ وليس كحقيقة يستَتْبع أنْ يكون الخير والشر فكرةً أيضًا وليس بحقيقةٍ، وقد سار بعض رجال الاجتماع في بلادنا على هذا المنوال فنظَرُوا إلى (الدِّين) على أنَّه ظاهرةٌ، وإلى (الله) على أنَّه فكرة، والصواب أنَّ الله حقيقةٌ وليس بفكرة، وله وجودٌ ملموس ومحسوس، وإنْ كان يستحيل إدراك ذاته.
[32] تابع: طلعت عيسى ص36، 44-45.
[33] محمد الغريب عبدالكريم، نظرية علم الاجتماع المعاصر، المكتب الجامعي الحديث ص72.
[34] تابع Wilmshurst 189.
[35] يقوم المثقفون في عالمنا الإسلامي اليوم بنفس الدور الذي ألقاه على عاتقهم سان سيمون، وما درجات الماجستير والدكتوراه إلاَّ أساليبٌ مرسومةٌ ومخطَّطة ليستَمِع الناس إلى ما يقوله أصحابها، وما يُفتُون به، فيحلُّون بذلك محلَّ علماء الدِّين، ولكن على أساسٍ وضعي، وليس على أساس الكتاب والسنَّة، وهذا هو عين ما حدَث حينما تَمَّ القضاء على المحاكم الشرعية والقُضاة الشرعيين بإحلال رجال القانون والمحاكم المدنيَّة محلهم، انظر أيضًا: طلعت عيسى ص43، 48-53.
[36] انظر: انسار بيار ص 65، وطلعت عيسى ص 113، 114، 126 وطعيمة ص436.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/web/khedr/0/33625/#ixzz4DDU3lWUn
توفيق- المساهمات : 626
تاريخ التسجيل : 18/04/2016
مواضيع مماثلة
» تغريدات عن الماسونية - (1) نشأة الماسونية
» تغريدات عن الماسونية - (2) خطط ومشاهير الماسونية
» تغريدات عن الماسونية - (3) قوانين الماسونية
» تغريدات عن الماسونية - (4) المخططات الماسونية
» الماسونية
» تغريدات عن الماسونية - (2) خطط ومشاهير الماسونية
» تغريدات عن الماسونية - (3) قوانين الماسونية
» تغريدات عن الماسونية - (4) المخططات الماسونية
» الماسونية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة يوليو 08, 2016 10:29 pm من طرف توفيق
» خواطر عن حال الارض قبل نهايتها_ منصور عبد الحكيم
الجمعة يوليو 08, 2016 10:27 pm من طرف توفيق
» كتاب(يأجوج ومأجوج من الوجود حتى الفناء) #منصور_عبدالحكيم
الجمعة يوليو 08, 2016 10:26 pm من طرف توفيق
» المؤامرة والمصادفة من كتاب الاسرار الكبرى للماسونية لمنصور عبد الحكيم
الجمعة يوليو 08, 2016 10:25 pm من طرف توفيق
» بين تجسس الغرب.. وتجسس "أذيال الغرب" بقلم: منصورعبد الحكيم
الجمعة يوليو 08, 2016 10:24 pm من طرف توفيق
» الميثاق السرى لحكومة العالم الخفية --المؤامرة على العالم
الجمعة يوليو 08, 2016 10:24 pm من طرف توفيق
» أصل الحضارة واعمق الاسرار فى ارض العراق - منصور عبد الحكيم
الجمعة يوليو 08, 2016 10:21 pm من طرف توفيق
» الهيكل وسر البقرة الحمراء - للكاتب منصور عبد الحكيم
الجمعة يوليو 08, 2016 10:15 pm من طرف توفيق
» تجربتى مع الماسونية و المؤامرة ـــ منصور عبد الحكيم
الجمعة يوليو 08, 2016 10:14 pm من طرف توفيق